أفكار وآراء

الربيع العربي وذهنية الصراع

20 ديسمبر 2020
20 ديسمبر 2020

خميس بن راشد العدوي -

17 ديسمبر 2010م.. يوم مشهود من أيام العرب المعاصرة، انطلقت منه شرارة الربيع العربي في تونس بحرق محمد بوعزيزي نفسه، لينتشر بعدها لهيبه في الرقعة العربية، مشكّلاً مفاجأة وصدمة. مفاجأة للشعب العربي.. حيث لم يكن إلى تلك اللحظة يتوقع بأنه على مشارف انفجار لا تقدر عواقبه؛ على الرغم مما أصابه من أنظمته من معاناة الفقر وقهر الاستبداد وحيف الإقصاء وانسداد أفق المستقبل. وشكّل كذلك صدمة للأنظمة.. التي لم يدر بخلدها أن هذا الشعب المغلوب على أمره يمكن أن ينفجر بثورات تطير بعروشها، وهي التي تملك كل أدوات الهيمنة.

صحب المفاجأة والصدمة أسئلة كثيرة، وقُدمت عليها أجوبة أكثر، لكن السؤال الأهم: ما سبب هذا الانفجار؟ ورغم مرور عقد من الزمن على الأحداث المهولة وكذلك محاولات الإجابة؛ إلا أن السؤال لا يزال قائماً.

عندما نستقرئ الأجوبة التي قدمت على هذا السؤال؛ المحوري والمصيري، نجدها تختلف في تقدير الأسباب، كل توجه بحسب نظرته، بيد أنها تكاد تتفق على أهمها وهي العلاقة بين السلطة والشعب، وهي علاقة صراع ومغالبة، صحيح أنها قبل الثورات لم تكن علنية، إلا أنها ملموسة في أصعدة شتى، في الحكم بين نظام ومعارضة، وبين مراكز قوى تستغلها السلطة لتحقيق توازنات بقائها، وفي مدى الحرية بين الخائفين على الوطن من النقد والخائفين عليه من السكوت عن النقد، وفي الصراع على الثروة بين أغنياء متنفذين، والمغالبة على لقمة العيش بين فقراء معدمين، وأحياناً تتصاعد حرارة الأجواء بالاعتقالات والاستجوابات من قِبَل الأنظمة، والاغتيالات والتفجيرات من طرف بعض الجماعات، والتي من أسباب قيامها هذه العلاقة المختلة والمتوترة.

عندما ننظر إلى المسار العربي عموماً.. نجد أن الصراع لم يكن مقتصراً على إدارة العلاقة بين الشعوب والحكومات، بل هو تأريخ طويل شكّل العقل العربي؛ وبالذات.. حول السلطة، ومَن تتبع كتب الأدب يجد آية ذلك؛ بمديح الحرب وفرسانها الأشاوس، والتغني بصليل السيوف ودوي المدافع.

منظومات المعرفة الدينية الكبرى: الرواية وعلم الكلام والفقه وأصوله هي الأخرى متشبعة بالصراع حول احتكار الحق، التي ابتدأ تأسيسها من بعد الفتنة الكبرى التي اقتتل فيها الصحابة، مروراً بالعنف المتبادل بين الدولة والمعارضة؛ والذي لم ينجُ من دواماته عامة الناس، حتى خُتم عصر التدوين، ليظل بعد ذلك الخطاب الديني يردد صدى تلك النزاعات، فيؤدي إلى بؤرة توتر هنا، ومستنقع احتراب هناك، على امتداد التاريخ الإسلامي.

وقولي: إن هذه المنظومات المعرفية متشبعة بالصراع، لا يلغي النفع فيها، فهي معارف كثيرة، تطرقت إلى أحوال مجتمعاتها بيسرها وعسرها، وتفاعلت مع ثقافات زمانها بالاقتباس والنقاش. كما لا يلغي وجود أسباب أخرى أدت إلى دوام الأزمة، ولكن لا يمكن نكران أن الصراع يشكّل عمودها الفقري.

فالعربي.. بتركيبه الذهني عادةً هو قابل للعنف بحكم نشأته على هذه الثقافة، ومع وجود خط فكري وفقهي يدعو للسلام والتسامح ومعالجة الأمور بالتي هي أحسن؛ إلا أن هذا التوجه الجميل لم يستطع أن يحيّد خطاب الصراع الكامن في هذه المنظومات المعرفية، بل هو ذاته يقع كثيراً فيما يحذر منه.

العرب.. على طول تاريخهم الإسلامي؛ غلب عليهم في تأسيس دولهم منطق الصراع، وهو شأن بشري عام، إلا أن العديد من الشعوب استطاعت إلى حد كبير أن تتزحزح عن هيمنته في العصر الحديث، بينما العرب فاجأهم الاستعمار بقبضته الحديدية التي وهّجت ممارساتها في الشعوب جمر الصراع الكامن في التاريخ، وهذه المرة.. وجد مشروعيته بطرد المعتدي الغاصب، الذي أكد للعرب بأنه لا تحرر بدون هذا السبيل، وبالتالي.. لا ينتزع الحق إلا بالقوة، فصيغت المناهج التربوية والفكرية والدينية الحديثة بهذه النزعة الحماسية.

ما إن خرج الاستعمار من المنطقة؛ إلا وقد أصبح روح الصراع منبثاً في الأجواء العربية، وبدلاً من أن يتولى السياسة قوم يسلكون بها مسلك الديمقراطية والحوار والتسامح مع شعوبهم؛ إذا بهم يمارسونها بلغة الصراع وأدواته الحادة، حتى تحوّل إلى نهج حياة داخل هذه الأنظمة ذاتها، فأصبح بها أجنحة تتنافس فيما بينهما للهيمنة على السلطة، ولتستولي على أكبر قدر من المكاسب، التي تغنمها من مقدرات الوطن وثرواته، ومن عرق المواطن وحقوقه ومستقبله، فظهر الفساد في الأوطان بما كسبت أيديهم، وأصبح العملة الرائجة في سوق الوطن البائر. لم تفكر هذه الأنظمة أن تشارك شعوبها في إدارة الدولة، وأن تنظر في مصالحهم وآمالهم ومستقبلهم، بل ساست الأمر بالقبضة الأمنية الخشنة.

كانت الأنظمة تنظر إلى العنف المتصاعد حولها؛ بدايةً.. من القومية والاشتراكية وانتهاءً.. من الإسلام السياسي والتطرف الديني، كأنه سحابة صيف عن قريب تنقشع، لكنه لم ينحسر، وإنما ازداد يوماً إثر يوم، حتى فاض من إناء العالم الإسلامي إلى صحن العالم الغربي، والذي لا يبرأ هو الآخر من استعمال أساليب ملتوية تذكي العنف في المنطقة، بل تدعمه وتشارك فيه بآلتها العسكرية الجبارة.

كان كثير من المشاكل التي تفرزها الحياة اليومية في البلدان العربية يعالج بالعنف؛ من الضغط على المواطن ليرضى بحاله، حتى الخلافات الدولية التي تحل بالحروب والتدخلات الخارجية في المنطقة.

انفجر الوضع بالربيع العربي.. فهل عولجت الأمور بالحكمة والحوار، والسعي للوصول إلى مخرج يجنب الأوطان ما حدث من سقوط مريع، دخلت بسببه في أتون حرب ملتهب لم يخبُ أواره حتى اليوم؟ لا.. بل ما حصل هو العكس، كانت «ذهنية الصراع» هي العقل الوحيد الذي (فكّر وقدّر، فقُتل كيف قدّر)، بما في ذلك الإعلام؛ الذي يفترض به أن يكون منار هداية لسفينة المنطقة المضطربة بأعاصير موسم الربيع العربي للوصول إلى بر الأمان، فأخذ يهيّج الشعوب بدعوى مساندتها، ولم يعمل على إرشادها بتقديم الخبر الصادق والتحليل الموضوعي، بل استُعمِل كثير منه من قِبَل الأطراف المتحاربة لإدارة المعركة حامية الوطيس.

«ذهنية الصراع».. التي رسّخها الربيع العربي أفرزت عنفاً متجدداً، فأعادت الأنظمة التي ثارت عليها شعوبها إلى هيكلة منظومتها القديمة، وفق بنية داخلية وتحالفات خارجية قائمة أيضاً على هذه الذهنية، وحتى الدول التي زالت أنظمتها مثل ليبيا؛ دخل شعبها في اقتتال بأجنحته المتنافسة على السلطة؛ لأن العقل نفسه، ربما تونس مولد الربيع العربي هي الوحيدة التي سلكت طريقاً أسلم من غيره، رغم ما يشوبه من مطبات صعبة تكاد توقف عجلة قاطرته السياسية.

والسؤال المطروح: هل أوشك الربيع العربي على الانتهاء؟.

على مستوى الواقع.. لا يزال الربيع يتواصل بمده وجزره؛ فآخر موجاته ضربت السودان فأطاحت بنظام حسن البشير، والجزائر ولبنان والعراق فيما يبدو تنتظر ارتفاع جائحة كورونا كوفيد19 ليعود إليها زخم الأحداث التي لم تنقطع كلية، كما أن الدول التي مر عليها الربيع بعاصفته وضْعُها رجراج، والدول العربية التي تظن بأن عاصفته قد تجاوزتها هي الأخرى في قلق، وتعمل على دفع الموجات المرتقبة عنها، ولكنها أيضاً تفعل ذلك بيد لم تتحرر من طوق «ذهنية الصراع»، رغم الإصلاحات التي تقوم بها لتسوية الأمور.

وعلى مستوى الرؤية.. كذلك الوضع خطر، طالما أن كل الدواعي قائمة على تواصل هذا الربيع، وما لم يُكنس بارود العنف ويُفك فتيل الصراع من الذهنية العربية؛ حكومات وشعوباً فإن الأمر لن يتوقف، إلى أن تتمكن المنطقة من نبذ لغة العنف في التعامل مع شعوبها، وكذلك تنقيح المنظومات المعرفية المشكّلة لتصورات هذه الشعوب من هذه اللغة، أو أن خط الصراع سيتواصل حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.