Untitled-2
Untitled-2
المنوعات

مرفأ قراءة... دروس يحيى حقي في الكتابة والإنسانية!

19 ديسمبر 2020
19 ديسمبر 2020

إيهاب الملاح -

-1-

«ولا ولوج إلى ساحة السعادة -في اعتقادي- إلا من أحد أبواب ثلاثة: الإيمان والفن والحب»

(يحيى حقي «قنديل أم هاشم»)

- «الفن هو قبل كل شيء عنوان غنى النفس، واتصالها الوثيق بالكون والحياة»

(يحيى حقي «صح النوم»)

-2-

... ويتواصل الحديث مع جدنا الطيب صاحب أنفاس الكتابة الرائقة والمذاق الرفيع في الإبداع والكتابة الأدبية والنقدية والنظرات اللغوية والفنية، الأديب الراحل يحيى حقي، الذي ما زلت عند ظني بأنه أحد سادات الكتابة والإبداع في الثقافة العربية، ويكاد يحلّق منفردا بإرثه الجمالي والفكري في القصة والرواية والنقد، ويترأس مدرسة فنية خالصة في كتابة القصة تقوم على الوعي الرهيف بجمالياتها وعلى إحساس فني شفاف بقدرتها على التكثيف والاختزال وإحداث الأثر، فضلًا عن تأسيس ما أسميه فضيلة التذوق اللغوي والاستشعار اللفظي الذي يقوم على ثقافة واسعة وسياحة عميقة في تراث العربية اللغوي واللفظي فضلًا عن مواكبة التطورات العصرية للاستخدامات اللغوية.

والمتابع والمطالع لتراث يحيى حقي الزاخر، والقارئ الفاحص المدقق لكتبه سيجد مصداق ما أقول دون كثير جهد، إذ تبدو عينه اللاقطة، المرهفة، التي يمكنها رؤية ما لا يراه الآخرون، وما يقع عند الحد بين الظل والأصل في كلِّ ما كتب، سردا وقصة ومقالا ونقدا..

يقول صاحب القنديل في واحدٍ من نصوصه (أو درسه الذهبية) عن مكابدة تحرير العبارة العربية من أثقال القيود الشكلية واللفظية التي ظلت تكبله لقرون متصلة:

«كان علينا في فن القصة أن نفك مخالب شيخ عنيد شحيح، حريص على ما له أشد الحرص، تشتد قبضته على أسلوب المقامات، أسلوب الوعظ والإرشاد، والخطابة، أسلوب الزخارف والبهرجة اللفظية والمترادفات، أسلوب المقدمات الطويلة والخواتيم الرامية إلى مصمصة الشفاة، أسلوب الواوات والفاءات والثمات والمعذلكات والرغمذلكات واللاجرمات والبيدأنات واللاسيمات، أسلوب الحدوتة التي لا يقصد بها إلا التسلية».

كنا نريد أن ننتزع من قبضة هذا الشيخ أسلوبًا يصلح للقصة الحديثة، كما وردت لنا من أوروبا، شرقها وغربها ولا أتحول عن اعتقادي بأن كل تطور أدبي هو في المقام الأول تطور أسلوب. كان علينا أن نضرب على يد من يحكي لنا قضية جنائية، ويقول اكتبوها فهي قصة جميلة حقا، ونقول له: «القصة شيء مختلف أشد الاختلاف»..

(يحيى حقي.. في سيرته الذاتية المعنونة «أشجان عضو منتسب»)

-3-

ولعل أهم ما أنجزه يحيى حقي (وما أكثر ما أنجز كتابة وإدارة وسلوكا) تأسيسيه لما أسميه «مؤسسة الرعاية الأدبية والإنسانية» خلال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات، الفترة التي ترأس خلالها مجلة (المجلة) التي لعبت دورا بارزا في اكتشاف عديد الأصوات ممن صاروا في الطليعة من كتاب الرواية والقصة ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي كله، ولا يخفى على قراء الأدب العربي وتاريخه في القرن العشرين أن يحيى حقي كان الأب الشرعي والروحي للجيل الأشهر المعروف باسم جيل الستينات.

ما من كاتب معتبر في هذا الجيل إلا وتم تدشينه كاتبا من خلال يحيى حقي، إما بنشر قصصه الأولى والتعريف بها وإضاءتها نقديا في (المجلة) وإما بالحديث المباشر والإشادة الفنية والنقدية بهذه الأعمال، خذ عندك: يوسف إدريس وفتحي غانم من الجيل السابق لجيل الستينات، ثم جمال الغيطاني وإبراهيم أصلان وعبدالحكيم قاسم وغالب هلسا وجبرا إبراهيم جبرا، وعشرات غيرهم، انفتح لهم باب الأدب والشهرة بفضل يحيى حقي..

سأكتفي هنا بإيراد شهادتين لكاتبين كبيرين يصوران فيهما هذا الجد الطيب في إنسانيته وتواضعه من ناحية، وفي إبداعه وتحليل أسلوبه من ناحية أخرى..

اسمع معي جمال الغيطاني وهو يصف يحيى حقي في لقاء مباشر جميع بينهما، يقول: أمام المكتب مقعدون متواجهون، فوق أحدهما يقعد يحيى حقي، لم أره جالسا إلى المكتب قط، دائمًا أمامه كأنه ضيف شخص خفي لا يُرى، كان قصير القامة، كبير الدماغ، أبيض البشرة، مشرب بحمرة، ملامح تنم عن أصوله التركية، دائما يميل إلى الأمام كأنه يهم بقول شيء ما أو إلقاء سؤال، أو اتخاذ وضع إصغاء، بل إنني إذ أستعيد ملامحه أراه دهشًا كطفل، متسائلا مستفسرا باستمرار كأنه لا يعلم، مع أنه من أوسع المثقفين الذين عرفتهم ثقافة، ورقة، وإنسانية، صوته خفيض، ألفاظه منتقاة بعناية، بدقة، ينتمي إلى ما عرف في تاريخ الأدب المصري بالمدرسة الحديثة التي ضمت أدباء مجددين في العشرينات، منهم أحمد خيري سعيد والأخوان شحاتة عبيد وعيسى عبيد، وحسين فوزي، ويحيى حقي، هؤلاء يمثلون تطورا مهما في حركة الأدب الحديث في مصر.

-4-

أول ما قرأ جمال الغيطاني ليحيى حقي، مجموعة «دماء وطين»، وكان يرى أنها من أجمل المجموعات القصصية في الأدب العربي، والمذهل تلك الطاقة التجديدية في قصصها رغم صدورها في نهاية الثلاثينات، يضرب الغيطاني مثلا بقصتيه «أبو فودة» و«البوسطجي» التي تحولت إلى فيلم شهير، كأنها مفردات في قاموس القصة القصيرة العالمية،

يقول الغيطاني: وحتى الآن أستعيد من خلال ذاكرتي المجهدة الموقف الذي يصور فيه يحيى حقي لقاء أبو فودة الخارج من السجن بعد سنوات بالمرأة، أدق خلجاته، وانهياره الذكوري أمام الأنوثة الفياضة المنتظرة، وأما «البوسطجي» فمن أجمل ما قرأت في حياتي، ولعل أساتذة الأدب المقارن يتوقفون أمامها، تلك القصة التي كتبت قبل قصة جارثيا ماركيز الفاتنة «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، ظهرت «البوسطجي» قبل قصة ماركيز بثلاثة عقود على الأقل، بالتأكيد لم يقرأ ماركيز «البوسطجي»، ولكنها الموهبة الأدبية الفذة التي تلمس جوهر المشاعر والمواقف الإنسانية هنا وهناك، فيعبر كل بطريقته، وطبقا لرؤيته عن ذلك الجوهر الواحد.

يسجل صاحب الزيني بركات بدقة طقوس حقي أثناء الكتابة، فقد كان يكتب خطاباته كما يكتب رسائله، على ورق صحف، وبحبر جاف، وخط دقيق منمنم، كان يعتبره مثل «الجواهرجي» الذي يختار كلماته بعناية ويعيد صياغتها بدقة ورهافة تتناسب مع المعدن الثمين، يحيى حقي فنان اللفظ، يختاره بعناية، يوفق ما بين الفصحى والعامية في براعة نادرة، يلتقط بعينه الفاحصة تلك الخصلة التي توقف عندها الكثيرون «وكثيرًا ما حضرت استفساراته عن بعض الألفاظ، كان يسأل الثقاة ممن يترددون عليه ومنهم الشيخ محمود شاكر الذي كان من كتاب المجلة».

-5-

أما كاتبنا الكبير بهاء طاهر (مد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية) فقد كان من المغرمين بأدب وذوق يحيى حقي وكان من الأوفياء لمدرسته في الكتابة.. يقول عنه: «من يستطيع حقيقة أن يكتب مقالًا عن سيد المقال؟ كيف يمكن لكاتب وهو مطمئن النفس أن يستخدم الكلمات العارية الخشنة ليصف بها لغة يحيى حقي؟ يوشك ذلك أن يكون عدوانًا على كلماته التي تشف بلورا صافيًا، تخلص من كل الشوائب والزوائد وانتظم في بناء موسيقى ما إن تقرأه حتى يتحرك في داخلك نغم متصل من جملة إلى جملة تمتزج فيه البسمة بالأمل والمتعة بالشجن».

يصور بهاء طاهر بقدراته التصويرية مساحات الطيبة والإنسانية والإبداع لأديبٍ على قدرِ ما في كتابته من تسامح وإنسانية وقدرة على الفكاهة لا تُبارى «يفتح عينيك على هموم كنت غافلًا عنها ويفجر ألغامًا لم تكن تتوقعها، ثم سرعان ما يمسح الهم عن نفسك بابتسامة حانية. وأنت تبتسم معه بالفعل، ولكن ذلك الشجن الخالي من القسوة ومن المرارة»، سيبقى معك دائمًا مثل لحن جميل، يتردد صداه في نفسك، ويدفعك دفعًا إلى أن تعيد قراءة يحيى حقي لكي تسترجع النغم مرة بعد أخرى.

ويختتم صاحب «وقالت ضحى»: أصبح يحيى حقي منذ دخلت عالمه صديقك مدى العمر، الصديق الذي يصدقك دون وعظ ولا افتعال، ودون نظريات ولا فلسفات. هو الآن بالفطرة السليمة وحدها ضميرك الحي، وهو في كثير من الأحيان أيضًا نفسك اللوامة!

رحم الله الجد الطيب «أبا الكتّاب والأدباء»، يحيى حقي...