147920_0
147920_0
الثقافة

مارادونا الإنسان كان الضحية .. مارادونا اللاعب كان خاليا من العيوب

17 ديسمبر 2020
17 ديسمبر 2020

(لاعب منتخب الأرجنتين 1975-1990)

بقلم/ خورخي فالدانو

ترجمها عن الإنجليزية/ ناصر صالح

أولئك الذين يلوون وجوههم سخرية واحتقاراً لهيئة مارادونا الأخيرة كرجلٍ يجد صعوبة في المشي، ويجاهد كي يتكلم، ويعانق نيكولاس مادورو، رئيس فينزويلا، ويفعل كل ما يحبه، سيكون من الأفضل لهم أن لا يقرأوا هذا الوداع الذي يشيد بالعبقرية ويغفر للرجل. لن يجدوا هنا ذرة لومٍ، لأنه كلاعب كان خالياً من العيوب، أما كإنسان فقد كان الضحية. ضحية من؟ أنا وأنت، وكل الذين رثوه بلا شفقة.

كم هو مريبٌ كَرَم الحياة حين تحقق كل أحلامك! ولكن لم يعانِ أحد من كَرَمِ القدر مثل دييغو، ففي مسيرة حياته من إنسان إلى أسطورة شطره بقسوة لاثنين: كان هنالك دييغو؛ وفي الجانب الآخر أصبح هنالك مارادونا. كان مدربه للياقة البدنية فيرناندو سينوريني، ذلك الإنسان المرهف الإحساس والذكاء، والذي ربما عرفه أكثر من أي شخص آخر، يقول: «سأتبع دييغو حتى آخر بقعة في الأرض، ولكنني لن أتبع مارادونا حتى إلى الزاوية القريبة».

لقد كان دييغو مُنتجاً آخراً للحي الفقير والمتواضع الذي ولد فيه، أتته الشهرة صغيراً، ومعها تمجيدٌ ورطه في سلسلة من العواقب؛ وكان أسوأها ذلك الإغواء الذي لا مفر منه للصعود كل يوم إلى ذرى أسطورته. أصبح ذلك احتياجاً، ولشخصية ميّالة للإدمان، كان هذا الاحتياج قاتلا. وإذا كانت كرة القدم عالمية فكذلك دييغو، فمارادونا وكرة القدم مترادفان، ولكنه في الوقت نفسه، وبلا لبس، كان أرجنتينياً، وهو ما يفسر العاطفة القوية التي كان يحظى بها في بلدنا، والتي أعفته دوماً من العقاب. فبسبب عبقريته والبيئة التي جاء منها لم تفرض عليه أية قيود منذ مراهقته، وقد نشأ فخوراً بالطبقة التي ينتمي إليها. تلك كانت رمزيته، ومنبع العاطفة الجيّاشة تجاه مارادونا. إنه الفقر يهزم الغنى، والعون المطلق القادم من الأدنى بديلاً لانعدام الثقة في الأعلى. إن الأغنياء يكرهون الخسارة، ولكن

حتى ألد أعدائه كانوا مجبرين في النهاية على الانحناء له، فلم يكن أمامهم خيارٌ آخر.

لم يكن عمره يتجاوز الخامسة عشر حين بدأ في الصعود إلى عرش كرة القدم. لقد فعل ذلك، بل إن الوطن احتضنه بعاطفة جيّاشة وكأنه المسيح! فلعبة كرة القدم في الأرجنتين لا تصل إلى العقل إلّا عبر القلب. سحر فنه أتى به من الشارع إلى الملعب، وسما به فوق انتماءات الجماهير. فلم يعد مهماً أيّ بدلة يلبس، إنه أرجنتينياً، وهذا وحده كان كافياً لإثارة مشاعر الفخر لدى الأرجنتينيين.

ولأن أداءه هو ما جعل منه عظيماً لا حياته، فلنبدأ من هناك، من تلك الصورة المبكرة لدييغو، ذلك الصبي الفقير بحالته المتواضعة وهو يسيطر على الكرة بتركيز مسؤول بيروقراطي، وبسعادة الطفل الذي يشعر أنه سيد اللعبة التي هي حياته. أولاً بقدمه اليسرى، ثم برأسه، ولا يتركها تسقط، وكأنه في حديث وجدل لطيف مع الكرة التي تتمرد مرات وتقاوم ولكنها سريعاً ما تعود إليه. وفي مشهد آخر، تبدو الكرة وكأنها على وشك الانفلات منه، ولكن دييغو لا يدعها تفلت، يعيد التحكم بها، وإخضاعها لإرادته، منتصراً عليها، فهو لا يتحكم بالكرة وإنما يروضها. لم يكن حينها يتجاوز العاشرة من عمره، ولكن المشهد يعطي لمحة عن ذلك الموهوب حقاً، بيد أن دييغو والكرة كانا آنذاك يتعرف كل منهما على الآخر.

الكرة وسيدها؛ إنها المعزوفة الشعرية التي نمت مع الوقت حتى أصبحت رؤيتهما معا مشهداً فاتناً بحد ذاته! عندما يتمرن، لأعطي مثالاً واحداً على هذه العلاقة الخاصة، فهو يرسل الكرة عالياً في السماء بتلك اللمسة التي لا يدرك غيره مداها، وبينما تواصل الكرة رحلتها في السماء، يؤدي هو تمارينه على الأرض وكأنه نسيها معلقةً هنالك في الأعلى، وعندما تصل الكرة في هبوطها إلى مستواه ينظر إليها ويتصرف كأنه تفاجأ بوجودها هناك، ويرسها لتبحر من جديد في السماء، وينساها لفترة أطول حتى تعود إليه من جديد. إنه يعرف بالضبط أين ومتى سيكونان معاً من جديد، دقته وتحكمه يضمنان ذلك. إن ذخيرته الفنية التي لا تنفد تجعلك أمام حالة معقدة!

كنا مرةً في برلين في انتظار مباراة مع مدربنا كارلوس بيلاردو الذي كان يصر أننا بحاجة لإتقان أسلوبنا، وكأي مهووس بفكرة ما لا يكف عن تكرارها. كان يقول بأن على اللاعب الأرجنتيني أن يعيش حياته والكرة دائماً عند قدميه»صباحاً، وبعد الظهر، ومساءً، وليلاً»، وكان يعيد هذا القول علينا كل يوم، إلى أن خرج مارادونا في إحدى الأيام من غرفته وهو ينطط الكرة بقدميه، دخل المصعد وهو ينطط الكرة، وصل إلى غرفة الطعام وهو ينطط الكرة، جلس على الكرسي، وبدون أن يترك الكرة تسقط أخذ يقضم الخبز الذي كان على الطاولة. توجه بيلاردو إليه بابتسامة عريضة في وجهه، فخوراً بهذا الإثبات العملي لصحة فكرته. قال لنا:»أتروون؟ لهذا السبب هو مارادونا». في كل مرة أروي هذه الحكاية أبتسم؛ لكن الابتسامة تأتيني اليوم مكسوةً بالحزن!

البراعة التي وصل إليها في التعامل مع الكرة، وأثارت إعجابنا جميعا، نقلها إلى اللعبة نفسها، وبفهمه هذا صنع نموذج الكمال. لقد كان يمتلك تلك الرؤية المحيطية للبومة. ذلك النبلُ الأنيق لأداء الساحر الذي يخدع بحيله الجميع. قوة الدفع الرباعية في الانفلات، الهروب. إرسال تمريرات لا تشوبها شائبة لرفاقه. تسديدات قاتلة، وشخصية نابليونية في اندفاعها نحو المعارك العظيمة. لم يكن سعيدا في أي مكان كما هو في الملعب، ففيه يلتقي بحبه الحقيقي: الكرة. ليس هذا فحسب، فهناك تتجلى قدرته على التحكم بالمسرح، كما لو أنه لم يعد يشعر أنه جزء من الفريق، بل هو المتفرد واقفاً لوحده. إنه أكثر شبهاً بنجم موسيقى الروك منه بلاعب كرة قدم. تلك الثقة الذاتية بأنه يمتلك الكرة، ذلك التفوق المتعسف، وتلك الهيمنة كلها أصبحت جزءًا من عقليته، وهي من صاغ مساره نحو ذلك اليوم المظلم الذي أمست فيه الشخصية أكبر من الشخص. لقد كان مختلفاً، وشعر أنه مختلف، وتصرف بشكل مختلف.

هنالك فكرتان صاغتا تفكيري على هذا النحو، وحتى لا يكون هنالك سوء فهم جارح يجب توضيحهما. أولاً، حين قلت إنه أشبه بمغني أو نجم موسيقي أكثر من كونه لاعب كرة قدم فتلك الصورة هدفها الإشادة بالعازف المنفرد وهو هنالك في دائرة الضوء، دون التقليل من شأن لاعب كرة القدم. فلقد عاش مارادونا ومات بروح لاعب كرة القدم. ثانياً؛ رغم كونه عازفاً منفردا، وفريداً، واقفاً وكأنه خارج الفريق، مضيئاً من تلقاء نفسه بنورٍ لا يضاهى، إلّا أنه لم يكن فقط يشعر أنه جزء من الفريق بل كان كريما مع رفاقه، وملتزماً تجاههم. تلك السعادة التي شعر بها في الملعب أصبحت تضامناً، وجعلته شجاعاً، موهوباً، استعراضياً، ونهماً للمنافسة. لهذا السبب أنا مقتنع بأن تمكنه من السير المجيد على سجادة العشب التي يبلغ طولها 70 -100 كان كفيلاً لوحده بجعل الحياة، بالنسبة له، جديرة بأن تعاش.

إن هذا الطرح يستلزم الحديث عن حياة دييغو باستفاضة، لذا علينا أن نذهب إلى نابولي، حيث عاش هناك ثمان سنواتٍ كثيفةٍ كانت حديث القرن، فبأدائه أخذ نابولي لثمان سنوات لم تعرفها من قبل، وحاز فيهما النادي مجداً كان جديداً حتى بالنسبة لمارادونا، لكن قطار حياته هناك خرج عن السكة! هنالك كانت البهجة والألم، النور والظلام، والوصول إلى أعلى القمم، وأعمق الحفر. كانت كرة القدم هي الصحة، لكن المرض أصاب حياته. لا يوجد أحد ممن عرفته قاسى مثل هذه الرحلة الطويلة المُبرِحة، لكنه في كلتا الحالتين، وفي كلا الهيئتين، في الملعب وفي الحياة، عاش كسوبرمان، ففي الملعب كان محاطاً بلاعبين عاديين في فريقه، ولكنه كان أقوى حتى من الحكام، ومن أريغو ساكي مدرب ميلان. كان لنابولي تاريخه الطويل من الفقر الاجتماعي والرياضي، وكان مارادونا واقفا لوحده ضد العالم، ولكنه رغم ذلك انتصر.

في كأس العالم 1986، كان يلعب وهو في أبهى تجليه، ووصلت عبقريته للذروة في اليوم الذي هزم فيه إنجلترا. هنا نجد كلمات هوميروس والأوصاف التي قالها في أوديسيوس، بطل ملحمته الأوديسة، تنطبق عليه: «فطنٌ، ماكرٌ، داهيةٌ، ألمعيٌ، بارعٌ، مخادعٌ، ومراوغ». إن كرة قدم مارادونا قامت على الجمال، الإبداع، الاعتزاز، والبسالة، وفي ذلك المساء كانت موجهة كلها ضد إنجلترا، وأيضا موجهة كلها نحو الأرجنتين بإحساس وطني عميق، وكل هذا مستند على موهبته ووعيه. سجل دييغو يومها هدفاً مذهلاً، وهدفاً آخراً بالاحتيال. كان هذا أفضل مثال على العبارة التي يتم استخدامها كثيراً، وربما في حالات أقل ملاءمة من هذه الحالة: «لقد كان أعلى من الخير والشر».

عاش حياته حقاً كسوبرمان، وإذا كان المسيح انبعث من جديد في اليوم الثالث، فإن مارادونا انبعث من الموت على الأقل ثلاث مرات، وهذا لم يكن سهلاً أيضاً. كانت قوته الجسدية تقارن بعبقريته الكروية. كل تجاوزاته العديدة كانت هجوماً على رياضته، وحرفته، ومع ذلك لم تستطع تدمير موهبته الخارقة، ولم تمنعه من إظهارها رغم أنه كان يلعب أحياناً وهو في حالة حرجة. إن الإعجاب والشفقة تتعايش فيهما الكثير من المشاعر المختلفة، واليوم حتى كرة القدم، اللعبة الأكثر شمولاً وتشاركاً بين الألعاب، تشعر بالوحدة، وتبكي بلا هوادة فقدان مالكها وسيدها، وكل الذين يحبون كرة القدم، كرة القدم الحقيقية، يبكون معها. أما أولئك الذين عرفوه عن قرب فسيبكون أكثر على ذلك الإنسان، دييغو، الذي يكاد يختفي في الآونة الأخيرة تحت وطأة أسطورته، وحياته المستفيضة. وداعاً أيها القائد العظيم.

■ نشرت هذه المقالة بتاريخ 26 نوفمبر 2020 في صحيفة البايس الأسبانية، وترجمت للإنجليزية ونشرت في الغارديان بتاريخ 26 نوفمبر 2020.