أفكار وآراء

التفكير داخل النظام الذهني

13 ديسمبر 2020
13 ديسمبر 2020

خميس بن راشد العدوي -

الوجود هو التفكير، والتفكير هو الوجود.. هذه العبارة ليست من قبيل الترادفات البيانية التي يستعملها بعض الكُتّاب كمحسنات بديعية، وإنما هي ملخص مكثّف لبنية موضوعية يتمتع بها العقل، فنحن البشر.. ما قيمة هذا الوجود خارج وعينا، وكيف للوعي أن يحصل لولا أن الوجود استثار عقلنا، لذلك.. فإن التفكير في التفكير هو من شواغل العقل الإنساني، الذي لا يمكن بالأساس أن ينفك عن التفكير، فهو خصيصة عميقة فيه غير زائدة عليه، والذي لا يفتر عنه حتى في النوم فينتج الأحلام. التفكير في التفكير هو ما يحاول المقال سبر غوره.

التفكير.. هو محاولة فهم الوجود ومفرداته، وإعادة بنائه ذهنيًا، وطالما أن الإنسان قد ارتبط بالوجود عبر العقل؛ فإن فهمه لتفكيره ضرورة وجودية، ليس لأجل البقاء البيولوجي، فهذا ليس من مهام العقل، فالقوانين الطبيعية كفيلة بذلك كما هو الحال في سائر الكائنات، وإنما لأن التفكير حتمي لوعي الإنسان؛ الخصيصة التي تفرد بها وجوديًا عن غيره، فأعطته «حق» إعمار الأرض.

بادي الرأي.. يظهر أن الإنسان يفكر بشكل حر، فلا جهاز خارجي يتحكم في عقله، فكل إنسان هو كائن لوحده، ويستقي المعلومات عن الموجودات عبر حواسه، وعقله دون غيره مَن يقوم بعمليات التفكير، وهذا صحيح إلى حد معين؛ الحد الضروري للإبداع، فبدون الإبداع تكرر الحياة نفسها ولا تتحرك إلى الأمام. وهو ضروري أيضًا ليمنح الإنسان بصمته المميزة، فنحن لا نكاد نميّز بين أفراد الجنس الحيواني الواحد، بينما نادرًا ما نخلط بين إنسان وآخر؛ لوجود اختلافات بيّنة في كل فرد منا، وعلى الإبداع والفرادة يقوم نظام الحياة الإنساني ويتقدم.

الإبداع في التفكير.. مساحته محدودة جدًا؛ لأنه لو كان عريض النطاق فلن يستقيم إعمار الحياة، فكيف للبشر أن يتفقوا لكي يحدث التعاون بينهم ويستقيم العمران لهم؛ إن لم يطأ بعضهم آثار بعض، ولذلك.. كان التقليد هو الخاصية الأوسع في الواقع الإنساني، والتقليد ليس أمرًا مذمومًا، بل هو ضرورة لتنظيم الحياة في حدود البنية الاجتماعية المتوفرة.

بيد أن التقليد ينمّط حياة الإنسان؛ منذ ولاته حتى موته، كل الأنظمة التي قامت للبشر هي خاضعة لهذه البُنية، وهو ما يشكّل الجبرية الاجتماعية؛ جبرية تلقي بثقلها الكثيف على وجوده، فلا يكاد يستطيع الحركة خارج نسقها، مشكّلة بذلك الجبرية المنطقية، أو ما أسميه بـ«التفكير داخل النظام الذهني».

أتساءل: هل هذا النوع من التفكير خاصية أصيلة في العقل؛ بحيث لو عاش إنسان معزولاً عن الناس منذ ولادته فسيجد نفسه مقلدًا؛ لكونه بالأساس يفكر داخل نظام ذهني قائم به؟ أم بالعكس.. لن يكون مقلدًا؛ لأنها خاصية يكتسبها العقل بكون الإنسان يعيش في جماعات منظمة خاضعة للتقليد؟.

أميل -حتى الآن- إلى أن «التفكير داخل النظام الذهني» هو خاصية أصيلة في العقل، يظهر ذلك من أوجه؛ منها:

- إن الإنسان حتى لو عاش عمره وحيدًا سيقلد ما حوله من كائنات كالحيوانات والطبيعة، وهو بذلك يدخل عبر تفكيره في نظامها.

- أن الإنسان يقلد نفسه، فهو إذا وصل إلى فكرة عملية نافعة يظل يكررها، حتى يتحرر منها بعد أمد بفكرة أخرى، وقد يموت ولا يبارحها، وهذا كمن يرى البيت نافعًا له، فيبني له بيتًا، ثم ينحبس فيه فلا يستطيع أن يغادره.

ولننظر إلى الإنسان القديم الذي اخترع السكين لأول مرة من الحجارة، فأمضى كل حياته على تلك الأداة، ولم يتحوّل عنها، فأتت أجيال متطاولة تعمل وفق نظامه، حتى استطاع شخص آخر أن يتحرر منه وينتقل من الحجارة إلى البرونز.

اليوم.. نحن نعرف أن الإنسان لا يتحرك في الحياة إلا وفق أنظمة صارمة، فللتعليم نظامه، وللعائلة نظامها، وللسير نظامه، وللدولة نظامها، وهكذا في سائر أوجه الحياة، ولكن ما قد يخفى.. هو أننا كذلك نفكر داخل أنظمة ذهنية شبه مغلقة، لكل نظام منها منطقه العتيد، الذي لا ينفك عنه بيسر، وإن حصل فهو انفكاك ضيق، وحتى العبارة المتداولة «التفكير خارج الصندوق»؛ لا تنصرف غالبًا إلى النظام الذهني؛ وإنما إلى محاولة الانفكاك من ربقة تقليد نظام اجتماعي باتجاه الاقتباس من نظام اجتماعي آخر.

ولكي نقدّر صلادة جبرية «التفكير داخل النظام الذهني».. علينا أن نتصور بأن حركة الناس داخل المجتمع بمختلف أنظمته هي «معلومة» من وجهة نظر العقل، يتغذى بها الدماغ عبر مرورها بالحواس، ليست مجرد معلومة عابرة، وإنما «قوة معرفية مؤثرة» على العقل والجسد معًا، ثم على الحياة من حول الإنسان. وللتقريب.. خذ أية عادة من العادات، فلتكن مثلاً «الامتحانات الدراسية»، فهي قبل تجربتها مجرد «معلومة»، وبعد الممارسة واتخاذها نهجًا لقياس النجاح، ثم تكرارها وانتشارها، أصبحت تقليدًا لم يتخلص منها النظام التعليمي حتى الآن، ورغم التحولات التي أصابت التعليم إلا أن الناس لا يزالون يتصورون عدم قدرتهم على تجاوزها عمليًا؛ رغم أن تجاوزها أصبح مطروحًا نظريًا، وربما ينقضي جيلنا كله دون أن نخرج عن هذه النمطية، هكذا يعمل التفكير، فنحن لا نفكر بشكل حر مستقل، وإنما نفكر عبر أنظمة بأكملها تلقيناها، ونشأنا عليها، تقبع في عقولنا، تسربت إليها نظريًا وعمليًا، فتسيّجت بحائط صلب، ملتصقة في قعر أدمغتنا، وكأنها أمر فُطرنا عليه، فأنت ربما قد تستطيع أن تتحايل على نظام اجتماعي أو عادة شخصية، لكن من الصعب جدًا أن «تتحايل» على نظامك العقلي؛ إنه حالة من الخدر القاهر يريحك بالركون إليه، إلا أنه يعوقك عن اكتشاف مسالك أخرى للحياة.

لبث الإنسان أدهرًا متطاولةً يقطع الطرقات على دابته، ولم يتصور أن بمقدوره اختصار أزمنة التنقل والتخلص من وعثاء مراكبه الخشنة البطيئة، فجميع الناس كانوا موقنون بأن هذه الوسيلة خاتمة وسائل التنقل، حتى جاءت لحظة تحرر فيها أحد البشر من الجبر الاجتماعي، فابتكر المحرك البخاري، فدرج الناس على التنقل برًا بالمركبات الآلية، ثم اختُرِعت الطائرة، فوُجِد تقليد النقل عبر السماء، ولنلاحظ.. أنه مع إيجاد أنظمة جديدة تظل الأنظمة القديمة عاملة، ولا تختفي كليًا إلا تحت ظروف من التغيّر ماحقة، أي أن الإنسان مع وجود أنظمة جديدة يظل رهين أنظمته القديمة.

هكذا هي بُنية العقل.. حيث يفكر في إطار أنظمة ذهنية نشأت اجتماعيًا، فمن الصعب مثلاً أن يفكر الإنسان خارج إلزام العائلة وجبر القبيلة القابع في ذهنه؛ إلا إن تحوّل عنه بعد لَأيٍ، مثلما كان يصعب عليه التفكير رياضيًا خارج النظام العشري؛ حتى وجد النظام الثنائي الذي قام عليه الحاسوب، فإذا هذا النظام يتغلب على سلفه بمسافات لا تحصى.

التفكير دينيًا.. هو الآخر يحصل في الدماغ داخل نظام المعتقدات التي يؤمن بها، فلا يكاد يستوعب القائل بتعدد الآلهة وحدانية الله، (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)، والعكس بالعكس. وهكذا نرى عدم قدرة المتدين بمعتقد «الفرقة الناجية» أن يفكر في الجوانب الأخلاقية بمنظور إنساني دون أن يكون خاضعًا لمعتقده.

ومع الإقرار بهذه الحقيقة.. بكونها جبرية منطقية خُبِزَ من عجينتها العقل؛ تُنشئها وتغذيها وتذكيها الجبرية الاجتماعية، إلا أنه من المهم فهم هذه الأنظمة، التي ينحبس في قوالبها التفكير الإنساني، وذلك.. لأن التفكير بوعي هو الأساس الذي يسعى العقل إليه، وهو ما يجعله يدرك الجوانب التي لم تعد صالحة للحياة؛ فيعمل جَهده على التملص من نمطية هذا النظام الذهني، ليبدع شيئًا جديدًا هو أصلح للحياة، وأكثر انسجامًا مع طبيعة النفس الإنسانية في خط تحولاتها المتصل.