أفكار وآراء

الفرص والتحديات أمام الملتقى الليبي للحوار

12 ديسمبر 2020
12 ديسمبر 2020

د. عبد العاطي محمد -

بعد محاولات عديدة فاشلة جرت على مدى 9 سنوات، عادت الأمم المتحدة لتلقي بثقلها لإنجاح عملية سلام جديدة تهدف إلى إنهاء الوضع المتأزم في ليبيا وتجنيب البلاد الدخول في نفق مظلم. ولتحقيق هذا الهدف لجأت المنظمة الدولية إلى مسار مختلف عن السوابق، هو ملتقى الحوار السياسي الذي أوكلت إليه تفعيل خريطة الطريق التي وضعها المؤتمر الدولي ببرلين، واختيار سلطة الحكم التي تتولى مرحلة انتقالية تفضي إلى انتخابات عامة أواخر2021. ومع توالي المؤشرات على إحراز تقدم في جلسات الحوار، سادت حالة من التفاؤل ولكنه ظل متسما بالحذر بحكم تعقيدات الأزمة عالميا وإقليميا ومحليا.

كانت الجهود السابقة عقب سقوط النظام 2011 ودخول البلاد فيما يشبه الحرب الأهلية قد اعتمدت على توسط المنظمة الدولية بين مؤسسات تنفيذية وتشريعية تنازعت القوة المسلحة والنفوذ السياسي والثروة، وذلك بهدف احتواء الصراع على الحكم ومنع تفاقمه، واستعادة الأمن والاستقرار في البلاد، والاتفاق على ترتيبات مرحلة انتقالية تحدد مستقبل النظام السياسي. وسعى أكثر من مبعوث دولي واحد إلى وضع صيغة للوضع المعقد الذي حدث بعد انهيار النظام القديم والدولة عموما. ولكن جهودهم جميعا باءت بالفشل لما لاقوه من تعنت شديد من الفرقاء السياسيين وغياب الثقة فيما بينهم، وبسبب التفتت الذي لحق بكل المؤسسات، وحالة الفوضى العارمة التي عمت البلاد. ولأن الأزمة من البداية ارتبطت إلى حد كبير بتدخلات قوى خارجية سواء كانت عبر دول غربية أو شرقية عالمية أو عبر دول إقليمية عربية وجدت نفسها منخرطة في مسار الأحداث، زادت المصاعب تعقيدا أمام كل المبعوثين الدوليين حتى بدت الأمم المتحدة عاجزة أو مشلولة الأيدي في إشرافها وإدارتها لكل المحاولات التي بذلت لحل الأزمة. ورافق هذا كله اندلاع الصراع المسلح بين الفرقاء من الغرب والشرق، مما أدى إلى المزيد من الانهيار على كل المستويات السياسية والاقتصادية والإنسانية. وهكذا ظهرت حكومتان وسلطتان تشريعيتان وكيانات عسكرية عديدة وبنك مركزي غير قادر على القيام بمهامه المالية الصحيحة ككل أنظمة العالم، وتوقفت حركة النفط الثروة الرئيسية للبلاد أكثر من مرة. وبالنتيجة أصبح هناك اتجاه قوى يحكم مسار الأحداث مضمونه أن يبقى الوضع المتردي على حاله دون تغيير، أو بمعنى أصح أن تبقى ليبيا دولة فاشلة، طالما أن هذا هو موقف القوى الرئيسية النافذة بحكم أنه يحقق مصالحها الخاصة. ولكن برغم وجود هذا الاتجاه وهيمنته عدة سنوات، لم يستسلم الاتجاه المعاكس له الذي يتبنى البحث عن حل سياسي سلمي لأزمة يهدد أمد استمرارها قولا وفعلا وجود الشعب الليبي بكل فئاته، فضلا عن تهديده للاستقرار والأمن الدوليين بما في ذلك أمن واستقرار دول الجوار. وقد كانت جهود الأمم المتحدة ضمن هذا الاتجاه المطالب بوقف التدهور وإيجاد حل سياسي يتوافق عليه كل الفرقاء لتعود ليبيا دولة مستقرة يتعاون معها المجتمع الدولي وتنهض من كبوتها الداخلية (الانقسام والعيش تحت طائلة السلاح). وظهر بالتجربة أن جهود المنظمة الدولية تواجه الفشل دائما بسبب الخلافات بين القوى الخارجية التي انخرطت في الأزمة منذ2011. كما افتقدت جهودها إلى المصداقية بين الشعب الليبي، إما بسبب تكرار الفشل، أو نظرا للحساسية الشديدة عند الليبيين من أية تحركات خارجية في شؤونهم، خاصة أنهم يحملون الأزمة من البداية للقوى الخارجية التي تدخلت فعلا في إسقاط النظام والدولة. إلا أنه ووفقا لضرورات الواقعية السياسية كان على الليبيين القبول بدور الأمم المتحدة شريطة أن يحظى هذا الدور بدعم مؤثر من كبار الدول الأجنبية وفي اتجاه العمل المخلص والصادق لإعلاء مصلحة الشعب الليبي على مصالح هذه الدول، وأن تكون هناك شواهد عملية على مصداقية الدور الخارجي هذه المرة عبر مظلة المنظمة الدولية. وهنا ظهرت أهمية المؤتمر الدولي الذي انعقد في برلين 19 يناير 2019 الذي شكل تحولا إيجابيا لأول مرة من المجتمع الدولي تجاه الأزمة الليبية نظرا لتشكيلة أعضائه من ناحية والرؤية التي طرحها والآلية التي اعتمدها لمتابعة تنفيذ قراراته. فقد ضم المؤتمر كلا من حكومات ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وروسيا والصين ومصر وتركيا والإمارات والجزائر والولايات المتحدة، ومعهم ممثلون عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية. وكان هذا الجمع الغفير مؤشرا على وحدة الموقف الدولي وجدية التحرك، ومن ثم بعث الثقة عند الأطراف الليبية والضغط عليهم في نفس الوقت. وحدد المؤتمر خريطة طريق عبر ثلاثة مسارات هي: العسكري والسياسي والاقتصادي. فتقرر الحرص على وقف إطلاق النار، وحظر توريد السلاح، وإصلاح الأجهزة الأمنية، وبدء عملية سياسية لتشكيل حكومة موحدة ومجلس رئاسي وإجراء انتخابات عامة ورئاسية، وتوحيد المؤسسات السيادية الاقتصادية وعدم التدخل الحكومي في أدائها وخصوصا البنك المركزي ومؤسسة النفط. كما تقرر وضع آلية لمتابعة تنفيذ هذه القرارات. ولتعزيز قوة هذه المخرجات صدر قرار من مجلس الأمن برقم 2510 لعام 2020 تبنى هذه الرؤية.

وشكل المؤتمر الدولي ببرلين وقرار مجلس الأمن أرضية قوية جديدة لجهود الأمم المتحدة، حيث سارع جوتيروش الأمين العام للأمم المتحدة بتكليف مبعوث بالإنابة هي الأمريكية ستيفانى وليامز للبدء في مقترب جديد لتحقيق حل سياسي وفقا لمقررات مؤتمر برلين. وقد استند المقترب الجديد في شرعيته إلى قرار مجلس الأمن. وتركز هذا المقترب في ابتكار صيغة ملتقى الحوار السياسي الليبي، الذي ظهر ككيان سياسي يتحدث باسم عموم الليبيين بعيدا عن المؤسسات القديمة التي عجزت عن التفاهم فيما بينها، بل وتعمدت إفشال الجهود السياسية السابقة. وجسد الملتقى موقف المجتمع المدني الليبي المحايد الباحث عن المصلحة الوطنية لا المصلحة الشخصية لأفراده. وضم الملتقى 75 شخصية تمثل أطياف المجتمع الليبي تمثيلا عادلا من حيث الجغرافيا والأعراق والقبائل وفئات المجتمع (بينهم نساء وشباب) وقوى سياسية من الغرب والشرق والجنوب. وتعهد هؤلاء بألا يسعون إلى تقلد مناصب سياسية في المستقبل (المرحلة الانتقالية). ووضح الهدف من هذا التشكيل بأنه يتجنب المسارات القديمة التي شهدتها كل المحاولات السابقة وكانت تتشكل كلية من نفس الرموز المتصارعة على الحكم والسلطة والتي تتحمل فعلا عرقلة التوصل إلى حل على مدى 9 سنوات نظرا لاختلاف حساباتها السياسية. وأوكلت للحوار مهمة محددة هي إصلاح أزمة الحكم أو السلطة التنفيذية المفترض وجودها في المرحلة الانتقالية لإدارة شؤون البلاد والإعداد للانتخابات العامة والرئاسية لاحقا. ويتعلق الإصلاح بوضع معايير الترشح لاختيار مجلس رئاسي وتحديد اختصاصاته وكذلك كيفية تشكيل حكومة موحدة ومنفصلة عن المجلس الرئاسي. وباشر الملتقى جلساته بالفعل وسط تفاؤل تارة وتشاؤم تارة أخرى، إلا أن الصرامة التي تبديها الأمم المتحدة عبر مبعوثتها ستيفانى وليامز تشير إلى حرص المنظمة الدولية على أن يكون الملتقى هو الفرصة الأخيرة التي لا ينبغي تفويتها من جانب الليبيين. وفي إحدى الجلسات توصل الملتقى إلى تحديد موعد للانتخابات العامة والرئاسية هو 24 ديسمبر 2021. وناقش أكثر من مقترح لطريقة اختيار المجلس الرئاسي والحكومة. وفي الاجتماع الافتراضي الثالث للجولة الثانية (2 ديسمبر 2020) وجهت المبعوثة الدولية ما يشبه الإنذار للمشاركين في الجلسات، والأرجح كان موجها أيضا لكل القوى السياسية المعنية بكل مستوياتها، تضمن التحذير من النتائج الوخيمة المحدقة بكل الليبيين على اختلاف توجهاتهم إذا ضاعت الفرصة هذه المرة. وكانت أبرز العبارات: «أريد أن أذكركم أن الوقت ليس في صالحكم، والتقاعس سوف يكلفكم الكثير». وطرحت عدة مؤشرات للتدليل على خطورة النتائج المتوقعة في حالة ضياع الفرصة هذه المرة، ومنها قولها: «هناك 10 قواعد عسكرية في كل بلادكم تشغلها جزئيا أو كليا قوات أجنبية.. وهناك 20000 من القوات الأجنبية أو المرتزقة.. هذا وذاك انتهاك مروع للسيادة الليبية.. في غضون شهر يناير 2021 سيكون هناك نحو مليون و300 ألف ليبي بحاجة لمساعدة إنسانية.. هناك انخفاض حاد في قيمة الدينار الليبي.. وهناك أزمة كهرباء رهيبة حيث تعمل 13 محطة فقط من 27 محطة.. تحتاج البلاد إلى مليار دولار لاستثمارها في المرافق الأساسية تجنبا للانهيار الكامل لشبكة الكهرباء، هذا مع تفاقم خسائر جائحة كورونا بشريا وماديا.. وهناك فساد في كل مكان والمفسدون لا يلقون عقابا..». وشددت على أن ملتقى الحوار هو الحل الوحيد لأنه شامل وواسع لاتخاذ القرارات المصيرية لحاضر ومستقبل البلاد، وإذا كانت مهمته هي حل أزمة الحكم، فإنه يتعلق أيضا بمشاركة المسؤولية من أجل الأجيال القادمة.

جديد الوضع إذن أن هناك تحركا مهما لحل الأزمة الليبية تقوده الأمم المتحدة ومدعوم من القوى الدولية الكبرى ومؤسسات بقية المجتمع الدولي. ومن المتصور أنه في حالة اكتمال مهمة الملتقى بالاتفاق على قواعد إصلاح السلطة التنفيذية، يتجه المشاركون في مؤتمر برلين إلى تفعيل آلية المتابعة إلى حد فرض تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه ولو قسرا، والعودة إلى مجلس الأمن ممكنة لإضفاء الشرعية على التدخل وفقا لبنود الفصل السابع، حيث لا عودة إلى الوراء مرة أخرى (إبطال نظرية القبول بالأمر القائم أو الرهان على كسب الوقت الذي لم يعد في صالح الليبيين). ومع ذلك يصعب الإفراط في التفاؤل بالنظر إلى أن إقصاء القوى القديمة من الحل يدفعهم إلى افتعال العراقيل ليس أمام أداء الشخصيات المشاركة في الحوار، وإنما عند تنفيذ المخرجات.

ومن جهة أخرى يحتاج ما يتوصل إليه الملتقى من قرارات إلى تأييد ودعم قوى إقليمية ودولية كثيرة ممن شاركت في مؤتمر برلين، وهو أمر فيه من الشكوك مثلما فيه من أوجه الثقة. في مثل هذه النوعية من الأزمات المعقدة هناك قدر من الفرص التي يتعين استغلالها مثلما هناك تحديات وعقبات يصعب تجاهلها، ومثلما يتعين أن تتحلى القوى المحلية بالمسؤولية، يتعين أن تتحلى بها أيضا القوى الخارجية.