1554288
1554288
الثقافة

مرفأ قراءة... رحيق الجد الطيب يحيى حقي في ذكراه

12 ديسمبر 2020
12 ديسمبر 2020

إيهاب الملاح -

  • 1 -

رغم مرور ما يزيد عن الثلاثين سنة على رحيله الهادئ الوديع ما زال طيفه الملائكي يسري في شرايين وأوردة أدبنا العربي ونصوصنا الخالدة سواء انتبهنا لهذا أو لم ننتبه! أتحدث عن الكاتب العظيم الذي عاش في هدوء وأبدع في هدوء ورحل في هدوء يحيى حقي الذي طالما فتنني بلغته الناعمة وسرده الأكثر نعومة ونظراته التأملية في الإبداع والأدب ولغة الكتابة بصورة ليس لها مثيل في أدبنا المعاصر.

في ذكرى مولده التي حلت قبل أيام أستعيد بعضا من رحيق هذا الجد الطيب وولي الكتابة الصالح وصاحب النظرات الرائقات في تجديد لغة الكتابة والسرد والحوار وكان من أكثر الأدباء السابقين على نجيب محفوظ تأثيرا في وجدانه في هذا الجانب.

كان نجيب محفوظ يجل يحيى حقي ويقدره ويعرف تمامًا حجم الدور الذي قدّمه للقصة القصيرة، والرواية العربية، وللأدب العربي عمومًا؛ فقد كان حقي يسبق محفوظ بجيل أو اثنين، وكان يترأس مصلحة الفنون التي انتدب نجيب محفوظ للعمل فيها بعد قيام ثورة 52، ويحكي نجيب محفوظ في مذكراته العجبَ عن دماثة خلقه وجميل طباعه وخفيض صوته ورائق فكره وأدبه ونقده.

ورغم أنني على مدار عشرين سنة سعيتُ بجد لإحياء ذكراه بطرق شتى وإعادة التذكير بقامةٍ سامقة من قامات أدبنا المعاصر؛ فإنني ما زلتُ على قناعتي بأن يحيى حقي- رغم حضوره الملائكي الطيفي كما أشرت- ما زال بعيدا عن دوائر التثقيف والثقافة، والمعرفة والتعرف، لمحبي القراءة عموما، والأدب والنصوص رفيعة المستوى بشكل أخص؛ ما زلتُ أدعي أن يحيى حقي ونصوصه المتميزة (رغم انتشارها وتيسرها في طبعات عديدة في السنوات الأخيرة) فإنها لا تحظى بالمساحة الكافية والتعرف الدقيق خاصة بين المقبلين على الكتابة والراغبين في احترافها والباحثين عن صوت مختلف في غابة الأصوات السردية (الروائية والقصصية) في عالمنا العربي من محيطه إلى خليجه.

ولأنني لا أملّ من التذكير والإشارة إلى ما أسميه «دروس الكتابة»» أو «أنفاس الكتابة الرائقة» التي أبدعها وقدمها كبار كتابنا عبر إبداعاتهم وكتبهم؛ فإنني دائمًا أستحضر دروس شيخ الكتّاب والجد الطيب؛ يحيى حقي أحد أولياء الكتابة الصالحين ذلك الذي بهرني، منذ تعرفت على نصوصه، بإبداعه وحسه ونظراته المختلفة للغة والأدب والإبداع بشكل عام.

ولأن حقي كان بالفعل شيخ طريقة مخصوصة في الكتابة والقراءة معا؛ ومتذوقًا عظيمًا من كبار المتذوقين للجمال والفن واللغة، فإن دروسه التي ألقاها بغير تكلف ولا ادعاء ولا وعظ إنما هي على الحقيقة «كنز أدبي» و«فني» لمن يبحث عن زاد يعينه على اجتياز الرحلة، وشق الطريق، وأتساءل: كيف لهذا الكنز أن يظل بمنأى عن عيون مريدي الكتابة ومحبيها؟!

  • 2 -

أنتمي إلى الجيل الذي أسعده الحظ بالتعرف على أعمال يحيى حقي الكاملة وقراءتها كاملة في طبعتها الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وهي طبعة صارت نادرة جدا الآن تقع في ما يزيد على عشرين جزءًا؛ المجلد الأخير منها حمل الرقم (28) بعنوان «كناسة الدكان» وهو الجزء التاسع من المقالات الأدبية؛ (جمعها وأعدها للنشر الناقد الراحل فؤاد دوارة).

من ميزات هذه الطبعة الرائعة، أنها كانت زهيدة الثمن، متوفرة في كل فروع ومكتبات هيئة الكتاب في كل المحافظات، حجمها أنيق، حملت عنوانًا جامعًا «مؤلفات يحيى حقي»، وكان غلافها أيضًا يحمل صورة بالأبيض والأسود لحقي بعد أن تجاوز السبعين يرتدي نظارته الطبية، ويحمل عصاه التي لم تفارقه في سنوات الكهولة والشيخوخة، وعلى وجهه ابتسامته الحانية الوديعة التي تحمل أطنانا من الرضا والمحبة والسلام النفسي.

ومن أهم ما ميَّز هذه الطبعة، أيضًا، ومنحها قيمة خاصة، اشتمالها على كتبٍ ومقالات لم تنشر من قبل بين دفتي كتاب، استخلصها بدأب وحب «فؤاد دوارة» من بين ركام صفحات الجرائد والمجلات التي نشر فيها حقي على مدار أكثر من ثلاثة عقود. المقالات الأدبية وحدها جمع دوارة منها 9 أجزاء متصلة، وكانت المرة الأولى التي يقرأ فيها محبو حقي مقالاته مجموعة بين دفتي كتاب اتخذ لها عناوين صارت أشهر من نار على علم؛ «تعال معي إلى الكونسير»، «يا ليل يا عين ـ سهراية مع الفنون الشعبية»، «عطر الأحباب»، «حقيبة في يد مسافر»، وغيرها.

ورغم صدور طبعات تالية من أعماله، فإن هذه الطبعة من أحبها إلى قلبي وأقربها إلى نفسي، خاصة تلك الأجزاء التي جُمعت فيها مقالات حقي عن الأدب والفن والنقد واللغة؛ تحديدًا كتابيه الفريدين «أنشودة للبساطة ـ مقالات في نقد القصة»، و«عشق الكلمة- الكتابات النقدية».

  • 3 -

وفي هذين الكتابين تحديدا، على الترتيب: «أنشودة للبساطة» و«عشق الكلمة»، يظهر أحد وجوه الجد يحيى حقي التي في رأيي لم تنل ما تستحقه من اهتمام ومتابعة حتى الآن، ولا وقع منه شيء تحت أيدي هؤلاء الذين يتعجلون الكتابة دون أن يقدِّموا لها بما تستأهله من إعداد وتكوين وثقافة رفيعة، والأهم العمل على إنشاء ذائقة فنية سليمة تنتقي ما تقرأ وتستوعبه وتتمثل جوهره وعناصره الجمالية كأحسن ما يكون.

يقول الناقد والكاتب الراحل فؤاد دوارة عن كتاب «أنشودة للبساطة»، أثناء عمله على جمع وإعداد الأعمال الكاملة لحقي إنه وجد هذا الكتاب يتحدث بالتفصيل عن فن القصة، والقصة القصيرة بالذات «فرأيت من المناسب أن أردف هذا الحديث الطويل بتطبيقات عملية من مقالات يحيى حقي عن مجموعات القصص القصيرة، ومقدماته لبعضها الآخر»؛ وقد أسدى دوارة من حيث لا يدري للأدب العربي والثقافة العربية خدمة جليلة بجمعه وحفظه لهذه الثروة الفنية والنقدية والجمالية.

لم يكن يحيى حقي مبدعًا من الطبقة الممتازة فقط في القصة والرواية، بل كان أيضا مبدعًا عظيمًا في كل ما خطت يمينه في الأدب والنقد والفن، في السياسة والتاريخ والترجمة، ومُبدعًا لا يُبارى في تذوق النصوص والتعليق عليها واقتناص جمالها، يتوقف بروية عند عباراتها وألفاظها وتصاويرها، ويتأمل بعين فاحصة شبكة العلاقات الجامعة لها ومدى ملاءمتها للمعنى الذي تعبر عنه أو تسعى لتصويره، كان حقي مبدعًا في علاقته الحميمة باللغة التي يكتب بها، يحاورها، يهامسها، ويُسايسها حتى منحته كنوزها وخفاياها ينهل منها ما شاء كيفما شاء.

  • 4 -

ويظهر جليا في هذين الكتابين المشار إليهما؛ أولًا الروح النقية النافذة والحس النقدي الصافي اللذان كتبت بهما هذه المقالات، وثانيا للإضاءات المركزة المكثفة التي قدمها يحيى حقي في ما يخص الكتابة الإبداعية وطرائق تشكيلها والتعامل مع النصوص الأدبية، قراءة وكتابة ونقدًا، وثالثا لأنها في المجمل تقدم خبرة رائعة وخريطة طريق ممتازة للكتاب الجدد، المقبلين على الكتابة، ولمن يبحثون عن أول الطريق.

في هذين الكتابين يتضح امتلاك يحيى حقي البصيرة، ويقينه أن التجربة الفنية «الحقيقية» تدرك بالمعاناة والنظر وارتياد آفاق بعيدة في استكناه روح اللغة، كان حقي من الصفوة التي انكشفت لها شبكة علاقات ونظام وأنساق جماليات اللغة العربية، بإدراك وعلم، وإمكاناتها التعبيرية وطاقاتها الإبداعية (لو كان هناك باحث نابه يعكف على ما كتب يحيى حقي في هذا الموضوع ويستخلص منه خيوط نظرية أو تصور ما لنظرية جمالية لغوية).

حساسيته للكلمة، للفظة المفردة، ودقائق العبارة العربية، كان مذهلا، يقول حقي عن اللغة العربية إنها «لغة عبقرية في قدرتها على الاختصار الشديد مع الإيحاء القوي»، وهو هنا لا يصدر في هذا الحكم عن نعرة قومية أو عصبية لغوية بل عن حساسية عالية اكتسبها من مداومة النظر والبحث في إرث هذه اللغة.

ويوجه حقي حديثه لناشئة الكتاب وشباب القراء على السواء عن الأدب العربي القديم، فيقول لهم «لا تنسوا أن الأدب العربي هو مادتكم التي تشتغلون بها.. اقرأوه بإمعان.. بنظرة فاحصة جديدة تسندها ثقافة العصر، هو وحده الذي سيعلمكم فن القول. وما فن القصة إلا نوع من فن القول. أنتم تقيمون بناء أحجار هي الكلمات، ستجدون في الأدب العربي الخالي من القصة سر هذه الكلمات؛ دلالاتها، جرسها، أطيافها. لا تبحثوا في الأدب العربي عن القصة، لن تجدوها.. ابحثوا فيه عن الكلمة، ستجدونها.. ستشبع نفوسكم بسر اللغة التي تكتبون بها»...

وما زال الحديث موصولا مع شيخ كتاب القصة القصيرة في أدبنا العربي الحديث..