أفكار وآراء

صورة الديمقراطية الأمريكية في عيون العالم

05 ديسمبر 2020
05 ديسمبر 2020

د. عبدالعاطي محمد -

يثير المشهد الأمريكي دائما اهتمام العالم، لذلك يفتح شهية كبار السياسيين والخبراء وصولا إلى رجل الشارع للتعليق على كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالتغييرات التي تلحق بالمؤسسات الحاكمة من خلال الانتخابات العامة. ولا يرجع ذلك فقط إلى مكانة الولايات المتحدة كأقوى دولة في العالم المعاصر، وإنما لأنها صدرت للعالم منذ زمن طويل أنها دولة الأحلام أو المكان الحلم من المعمورة الذي تتحقق فيه كل ما يتمناه المرء من رفاهية وأمن وسلام.

وكلما حل رئيس جديد في البيت الأبيض، يحرص على أن يذكر الأمريكيين وبقية سكان العالم بأنه جاء للحفاظ على هذه الصورة الوردية، وأنه الأفضل من سابقه لتطويرها أو لتصحيح أية أخطاء لحقت بها من سياسات سلفه. هكذا قال أوباما: «نعم نستطيع»، وقال ترامب: «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، وقال جو بايدن: «معا نعيد بناء أمتنا». وكلها شعارات تركز على أن الولايات المتحدة ستظل النموذج في بناء القوة داخليا وقيادة العالم خارجيا من خلال تجسيد رسالة تتبناها (بعضهم كان يراها رسالة من الله) قوامها نشر القيم الأمريكية التي تستند على نصرة الخير ومحاربة الشر وتفعيل الديمقراطية كما يجب أن تكون. ومع كل انتخابات عامة تتجه أنظار العالم إلى الساحة الأمريكية على اتساعها الضخم لترقب كيف يحافظ النظام السياسي الأمريكي على القيم الديمقراطية ليعطي مثلا يحفز الآخرين على اتباعه، وكيف يتصرف الأمريكيون وهم من أجناس مختلفة وجاؤوا من كل حدب وصوب للعيش في هذه الأرض الموعودة، في انتخابات عامة فريدة من نوعها من حيث الإجراءات ضمانا ليخرج المظهر الديمقراطي على أكمل وجه ويفاخرون به الآخرين. ومع أن العالم توقع مسبقا هذه المرة (انتخابات 2020 - 2024) أن يكون الأمر مختلفا من حيث شدة الإثارة والقلق أيضا، على خلفية كل الأحداث الغريبة والمثيرة والمقلقة للغاية التي مر بها المجتمع الأمريكي على مدى 4 سنوات مضت هي فترة حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وعلى الرغم من توقع المشاكل والخلافات بما يجعل أجواء الانتخابات متوترة للغاية وأبعد عن التقاليد الأمريكية في هذا المجال، حتى أنها كانت تعد بمثابة العرس السياسي الذي يقام كل 4 سنوات، فإن أحدا ما كان يتوقع أن تصل الأمور يوم الرابع من نوفمبر إلى حد التجاذب والتغير السريع في مسار التصويت وتبدل النتائج بشكل درامي، وسط استقطاب لم تعرفه البلاد من قبل. واستمرت حالة عدم اليقين والتشكيك في النتائج لأيام بل وأسابيع. وقد يقال إن شيئا من ذلك الغموض والارتباك المصحوب بروح عدائية من المتنافسين قد حدث في الماضي البعيد أو وقت انتخابات بوش الابن الجمهوري وآل جور الديمقراطي، ولكن لا يقارن ما جرى في الانتخابات الأخيرة بأي تجربة سابقة وبأي معيار من المعايير لأنه فاق كل ما كان من الممكن تخيله من حيث سوء المظهر وسوداوية الصورة. ولا يحتاج القارئ لتفاصيل المشهد المؤسف الذي تابعه العالم كله طوال هذه الانتخابات وما تلاها من تداعيات أعطت انطباعا بأن ما جرى لم يحدث في أي بلد آخر ممن لهم تاريخ سيئ السمعة في الحياة الديمقراطية وتحديدا في تجارب الانتخابات العامة. قبل أسابيع من الانتخابات كانت الحملات الانتخابية لكل من ترامب (الجمهوري) وبايدن (الديمقراطي) قد ازدادت اشتعالا وخرجت عن المألوف والتقاليد الأمريكية حتى أنها وصلت إلى حد التجريح الشخصي. وفى الخلف كان الشارع الأمريكي يزداد احتقانا وانقساما بين أنصار هذا وذاك. ودخل الإعلام طرفا في القضية منحازا بشدة ضد ترامب، وتوالت استطلاعات الرأي التي تؤكد أن بايدن سيفوز فوزا كاسحا من الساعات الأولى. وإذا استبعدنا مظاهر المبالغة من قطاع الناخبين في التأييد أو الرفض لهذا أو لذاك، واستبعدنا كذلك التباين الشديد في السياسات العامة التي طرحها برنامج كل من المرشحين، فربما أمكن فهم كل ما جرى على أساس أنه من طبيعة الحياة السياسية الأمريكية الثرية بخطاباتها ومفاجأتها أيضا، مع الإقرار بأنه تطور مؤسف وطارئ فرضته ظروف انتخاب ترامب 2016 المفاجئة والتي جاءت عكس كل التقديرات آنذاك. ولكن الأمر هذه المرة كان مختلفا أو غريبا جدا ولم يسبق له مثيل على الأقل في المائة عام الأخيرة، لأنه تعلق بأهم ما يفاخر به النظام السياسي الأمريكي على مدى الزمن، وهو الديمقراطية وروح أمريكا (الإيمان بقيم المؤسسين الأوائل). فقد تجمعت كل المساوئ التي وصمت المشهد العام لتصب في الخوف إلى حد الهلع من انهيار الديمقراطية الأمريكية وقيمها. ومن تابع كل المناوشات الإعلامية والسياسية بين ترامب وفريقه من ناحية وخصومهم من الحزب الديمقراطي من ناحية ثانية على مدى 4 سنوات، بل وبدءا من اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض، يدرك بسهولة أنه كان خلافا حادا حول الممارسة الديمقراطية. فقد تم وصمه من البداية بأنه شعبوي لا يعترف بالمؤسسات، ويفعل ما هو مقتنع به فقط وليس ما يجب أن يكون. وقد تعرض لمحاولتين لعزله، ولمضايقات شديدة من معظم أجهزة الإعلام. ولأهمية قضية الديمقراطية، فإن كل الحملات التي تعرض لها ترامب خلال فترة الاستعداد للانتخابات تركزت على دفع الأمريكيين إلى عدم التصويت له لأنهم لو فعلوا ذلك سيكونون قد صوتوا ضد ديمقراطيتهم، وكثيرا ما وردت عبارة ديمقراطيتنا في خطر في كتابات كبار الكتاب الأمريكيين في دعوة صريحة للتخلص من ترامب. وهكذا تم تقديم بايدن على أنه المنقذ الذي سيعيد ديمقراطية البلاد إلى سابق عهدها. ومن تابع كلمات بايدن ونائبته كاملا هاريس سواء خلال الحملة الانتخابية أو بعد ظهور النتائج لصالحهما يلمس تأكيداتهما على أنهما سيعيدان روح أمريكا أي أسلوبها الديمقراطي الفريد إلى الحياة السياسية. إذا كانت هذه هي القضية الأساسية التي حكمت الانتخابات بغض النظر عن أهمية مختلف القضايا الداخلية والخارجية التي يأتي بها بايدن إلى الإدارة الجديدة، فإن السؤال المشروع هو إلى أي حد دافعت الديمقراطية الأمريكية عن نفسها في هذه الانتخابات؟. ولا يرجع السؤال إلى ما أثاره ترامب وفريقه من اتهامات بتزوير الانتخابات في سابقة هي الأولى من نوعها حيث لا يعقل أن يثار هذا الاتهام يوما ما في دولة مثل الولايات المتحدة تؤكد تقاليدها دائما على النزاهة والشفافية. فربما يقال إنه ليس غريبا من رجل بشخصية ترامب أن يتبنى اتهاما كهذا، ولكن ما لا يمكن إنكاره حقا أن هناك حقائق تثير الشكوك حول مشروعية فوز بايدن بمعنى توافر الشروط القانونية والدستورية في عملية الانتخابات هذه المرة. قد يكون ترامب مبالغا في تضخيم الاتهام وحجته ضعيفة لأنه لم يقدم دليلا ماديا على التزوير، وقد يكون بايدن محقا في احتفاله بالفوز. كما لا يصح من حيث المبدأ توجيه الاتهام لحملته بالتورط في التزوير مع عدم وجود أدلة مادية عليه. ولكن هناك حقائق أقر بها بعض من الديمقراطيين والجمهوريين تؤثر على مصداقية العملية الانتخابية كلها من حيث دقة الإعداد لها وطريقة تنفيذها.. هناك بضع آلاف من الأصوات كان يجرى استبعادها ثم يعاد حسبانها لأخطاء في أجهزة الحواسيب التي تم استخدامها. وتم هذه المرة استخدام التصويت بالبريد بطريقة مختلفة عن تلك المتبعة بخصوص المتغيبين. فبسبب جائحة كورونا جرى الاعتماد على إرسال بطاقات الاقتراع إلى المنازل وهناك يجرى الاختيار وتعاد بعد ذلك بالبريد. ومع أن الفكرة تمت الموافقة عليها من الولايات، وجرى وضع ترتيبات معينة لضمان صحة التصويت، وأعطيت الحرية لكل ولاية في مد أيام قبول البطاقات التي ترد بعد 4 نوفمبر، إلا أن طريقة كهذه لا تسمح بالتأكد تماما من صحة التوقيعات ولا من مراجعة الناخبين عند حدوث شك ما لأن قوائمهم غير مسجلة أصلا بنفس طريقة التصويت بالنسبة للغائبين. وليس خافيا أن بعض الولايات واجهت عقبات فيما يتعلق بالأجهزة المستخدمة وتوفير المتطوعين لفرز الأصوات، هذا فضلا عن المقاطعات ضمن كل ولاية كان لها طريقتها في التنفيذ وسط مخاوف حقيقية من أن يكون ناخبون في مقاطعة ما اضطروا للتصويت خارج مقاطعتهم، وكل ذلك أدى إلى تأخير إعلان النتائج.

وإذا نظرنا إلى مؤشر الإيكونوميست بخصوص المقصود بالديمقراطية سنجد أنه يتضمن 6 عناصر إذا اجتمعت يتم وصف ما جرى بأنه تفعيل للديمقراطية قولا وفعلا، وهى العملية الانتخابية، والتعددية، وأداء الحكومة، والمشاركة السياسية، والثقافة السياسية الديمقراطية، والحريات المدنية. وبتطبيق هذه العناصر على ما جرى في الانتخابات الأمريكية الأخيرة سنجد عنصري التعددية والحريات المدنية متوفرين، بينما بقية العناصر موضع شك أو ريبة. حدث هذا في بلد يصف نفسه بأنه حامي حمى الديمقراطية في العالم. فالعملية الانتخابية والتي جرت بهذه الطريقة الجديدة (التصويت بالبريد) تثير إشكاليات قانونية ودستورية كما سبق التوضيح. وللحق فإن ترامب كان قد رفض وحذر من الاعتماد عليها قبل الانتخابات بعدة أشهر. وصحيح أنه صوت بالبريد ولكن بنظام المتغيبين الذي يخضع لقواعد صارمة تمنع التلاعب (الأسماء مسجلة سلفا وبتوقيعات محددة لا تتغير وهي التي تطلب التصويت بهذه الطريقة، بعكس ما جرى حيث كانت البطاقات ترسل إلى كل المدرجين في قوائم الانتخابات دون أن يطلبوا وليس لهم سجلات في الأجهزة المتبعة للمراجعة). ولا شك أن المظهر العام الذي صاحب عملية الاقتراع قد كان سيئا كما لاحظ الجميع. وأما عن أداء الحكومة فقد كان دائما موضع نقد ومعارضة داخل الكونجرس وخارجه خصوصا فيما يتعلق بسوء مواجهة جائحة كورونا. وفيما يتعلق بالمشاركة السياسية فقد كانت نسبتها مرتفعة جدا في الانتخابات قياسا بأية انتخابات سابقة حيث زادت عن 70%، وبلغ عدد المشاركين أكثر من 150 مليون ناخب وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البلاد، ولكن كان من بين هؤلاء نحو 105 ملايين ناخب صوتوا بالبريد بما يعنى أن 50 مليون ناخب فقط هم من ذهبوا إلى مراكز الاقتراع!. وإذا نظرنا إلى حالة الانقسام الحادة التي يمر بها المجتمع الأمريكي وظهور التعصب والعنصرية والعنف، فإن الحديث عن الثقافة السياسية الديمقراطية يصبح موضع شك كبير!. لقد اهتزت صورة الديمقراطية الأمريكية في عيون العالم، وأصبح تصحيحها مهمة ثقيلة أمام الإدارة الأمريكية الجديدة.