7896
7896
الثقافة

مرفأ قراءة .. «قلق الأمسيات» .. شعرية الموت والفقد!

05 ديسمبر 2020
05 ديسمبر 2020

إيهاب الملاح -

«... ليس للموت عائلة، ولهذا يظل يبحث عن جثث جديدة حتى لا يشعر بالوحدة. وما إن يضع أحدًا تحت الأرض، حتى يخرج ليبحث عن غيره»

(من رواية «قلق الأمسيات» الحائزة على جائزة بوكر البريطانية العالمية 2020)

-1-

تظل ثنائية الموت والفقد من الموضوعات المؤلمة الأثيرة في الخبرة الجمالية الإنسانية (والروائية خصوصًا) في العالم أجمع. دارت حولهما عشرات بل مئات الأعمال منذ الكلاسيكيات القديمة وحتى أحدثها وستظل ما دام الإنسان يشعر بعجزه وضآلته وقلة حيلته وهشاشته أمام «المجهول» الذي لا يعرف متى ولا أين ولا كيف سيحكم قبضته عليه، وينتزعه انتزاعا من بين آله وأحبابه ودنياه ليلقي به على الضفاف غير المنظورة، الفضاء الذي طيّر عقل الإنسان وعجز عن تصور ماهيته فضلًا عن شعور الفقد، إحدى أكثر التجارب قسوة وألما في حياة البشر.

برهافة مدهشة وخبرات إنسانية فريدة وتفاصيل محكمة، تترجم رواية «قلق الأمسيات» كلّ هذه المشاعر والأحاسيس المرهفة المعقدة المتداخلة وتتأمل هذه الثنائية بحس شديد الرهافة والفطرة والبراءة إنها الطرح الإنساني الأنقى في انعزاله ودهشته وألمه ووجوده جميعا.

الرواية صدرت ترجمتها العربية عن دار العربي للنشر والتوزيع، بتوقيع محمد عثمان خليفة، لكاتبتها الهولندية الشابة ماريكا لوكاس رينفيلد التي صارت بين ليلة وضحاها أشهر كاتبة في أوروبا كلها هذا العام، عقب الإعلان عن فوزها بجائزة بوكر البريطانية الشهيرة للعام الجاري 2020 عن روايتها هذه، في أواخر أغسطس الماضي.

-2-

الغريب أن «قلق الأمسيات» هي رواية ماريكا رينفيلد الأولى، وهي بكاملها مستلهمة عن خبرة ذاتية أو ما يشبه مقطعًا من السيرة الذاتية لفتاة هولندية صغيرة تجابه تجربة الفقد وجهًا لوجه وهي في السنوات الأولى من عمرها حينما ينتزع الموت منها أخاها الكبير الذي كان في الحادية عشرة من عمره في حادثةٍ مفجعة، تتتبع الرواية تفاصيل ما بعد الحادثة وأثرها المطبوع والمحفور في نفوس وعقول أفراد الأسرة جميعًا.

كانت الحادثة المفجعة ذات أثر كبير في حياة الأسرة الهولندية البسيطة التي تحيا بين جنبات قرية زراعية بسيطة بعيدة عن ضوضاء المدينة وصخبها، وقد علمت دائمًا أنني لو كتبت كتابًا، فستكون هذه هي نقطة البداية. وهكذا، فإن الرواية تنطلق من واقعة موت الأخ بالتأكيد، أما باقي الرواية فيختلف عن حياة ماريكا وتطوراتها تقول عن ذلك «كان عليّ أن أعمل بكدّ شديد لكي أكتب كل شخصية كما تصورتها، وعشت معها وانفعلت بها»، لكن في النهاية «الموت» هو النقطة المشتركة بين الواقعي والمتخيل، والإحساس بالفقد هو الشعور المهيمن على جو الرواية كله. تعبر عن ذلك في ثنايا الرواية:

«نجد أنفسنا في حالة من الفقد، ونظل كما نحن.. كائنات ضعيفة، مثلها مثل فراخ طائر الـ«زرزور» الصغيرة التي تسقط عارية من الريش من أعشاشها وتبقى على أمل أن يلتقطها أحدهم، ويعيدها إلى العش مرة أخرى. أبكي على الأبقار.. أبكي على «الملوك الثلاثة»، ثم أبكي على نفسي، المتدثرة في معطف القلق، ولكني سرعان ما أمسح الدموع. يجب أن أذهب إلى «هانا» وأخبرها أنه من غير الممكن أن نذهب إلى الجانب الآخر في الوقت الحالي. لا يمكننا أن نترك أمي وأبي خلفنا هكذا. ما الذي سيحدث لهما بعد أن رحلت الأبقار؟».

-3-

تسرد أحداث الرواية على لسان بطلتها «ياس» التي تمثل منظورًا جديدًا وغريبًا للعالم بأعوامها العشرة وتلقيها المختلف للمشاعر والخيال ووطأة الواقع الثقيل، كلمة «ياس» في الهولندية تعني «المعطف الثقيل طويل الرقبة ويكاد يغطي وجه صاحبه، ولأنها تشعر بخوف شديد ورعب لا تفسره من خطر مجهول أو إحساسات مؤلمة فإنها تلتف بمعطفها دائمًا لا تتركه ولا تتخلى عنه ويمثل لها السياج الواقي والمانع الحامي من الأخطار والشرور الخارجية التي تهددها، سيمثل المعطف هنا علامة بالمعنى السيميوطيقي كي يفصل بين عالمين، عالم خارجي بعيد وغريب ومجهول ويمثل كل الهواجس والوساوس والتصورات الشريرة، في مقابل عالم «ياس» الداخلي، عالم غض يموج بالبراءة والأمنيات الطيبة والنوايا الحسنة..

وفي هذا العالم الوردي، ودون أن تقصد ياس تتمنى أن يحفظ الرب أرنبها المحبوب وصديقها الأمين الذي تبوح له بأسرارها وتخاطبه في فراغاتها ويمثل لها نصف العالم الطيب، ولأنها تخشى أن ينال أحد من أرنبها بغرض الصيد أو الاقتناص أو ربما لإعداده على مائدة الطعام تصلي ياس للرب أن يحفظ لها صديقها حتى لو كان المقابل هو التضحية بحياة أخيها!

تتحقق الأمنية الغريبة وتقع الفاجعة المأساوية، سيموت الأخ.. وتنطلق أحداث الرواية!

-4-

في الرواية التي تقع في 360 صفحة من قطع الروايات المعروف، كل الشخصيات حية ونابضة بالتفاصيل والمواقف، و«ياس» بطلتها فلاّحة صغيرة، لا تعرف تزويق العبارات، ولذلك تصف الأشياء بمسمياتها، مهما كانت فجة وصادمة، يقول الناقد محمود عبدالشكور عنها «بدت لي أحيانا كأنها تستقطر كل تفاصيل الحياة تحديًا للموت، تماما كما أصرت أن تتمسك بارتداء معطفها الأحمر، تعبيرا عن قلق وخوف دائمين من المرض والموت، وتماما مثلما أصرت ياس على أن تحتفظ ببقايا الأشياء في جيوبها.

ليتها صرخت، ولكنها احتفظت بحزنها في داخلها مثل كل أفراد أسرتها، فتأثر جسدها، وتمردت معدتها وأمعاؤها، وظلت حتى نهاية الرواية تريد أن تهرب مع شقيقها وشقيقتها إلى الجانب الآخر، وظل الموت حاضرا يطل برأسه في هيئة سنجاب أو أرنب أو أبقار أصابها مرض جنون البقر».

وسط هذه الفوضى الحياتية الصاخبة، تحاول ياس أن تعرف ماهية الموت، وأن تكتشف معنى الذهاب إلى الجانب الآخر، تحاول أيضًا أن تسأل عن الرب، وعن الملائكة، تعيش قلقًا وجوديا مدهشا، يخرج من قلب واقعها الخشن، تخاف أن تفقد أبويها، تخشى أن ينتحرا ذات يوم، تتمسك بالحياة في صورة ضفادع تريدها أن تعيش وتتكاثر، تريد أن تذهب إلى نفسها، وأن تكتشف عالم الكبار، تبدو مسكونة بخيالها اللامع، وتفر إليه دوما بدون أجنحة.

-5-

في حواراتها جميعا تؤكد ماريكا رينفيلد على أن ما ألهمها لكتابة هذه الرواية الواقعة المشار إليها أعلاه، وهو وفاة أخيها الكبير في حادثة مؤلمة، تقول عنها نصا «كانت حادثة ذات أثر كبير في حياتنا، وقد علمت دائمًا أنني لو كتبت كتابًا، فستكون هذه هي نقطة البداية. وهكذا، فإن بداية هذه الرواية هي موت الأخ بالتأكيد، أما باقي الرواية فيختلف عن حياتي؛ لكن الموت هو النقطة المشتركة».

ورغم أن ماريكا لم تكتب الرواية من قبل، فإنها كانت تمارس كتابة الشعر وتستلهم نموذجها الجمالي من كاتب هولندي اسمه «يان فولكرز»، تصفه بالكاتب العظيم، وتقول عنه: «إن له تأثيرًا كبيرًا على أعمالي».

ربما كان حس ماريكا الشعري الفطري وانخراطها في تأمل العالم من موقعها والانغماس في قراءة كاتبها المفضل كل ذلك كان له أثره في نضج حاستها الكتابية وقدراتها التصويرية وإرهاف لغتها الجمالية؛ تتابع ماريكا:

«قلب يان فولكرز حياتي رأسًا على عقب عندما قرأت لغته، وأسلوبه، وصوره الاستعارية والبلاغية. يكتبُ كثيرًا عن الطبيعة، والجنس، والإيمان، وقد فكرتُ في أنني لو كتبت شيئًا شبيهًا بما كتب، فسأكون بذلك قد حققتُ شيئًا رائعًا. كان مصدر إلهام كبير في حياتي، وأعلق صورته فوق مكتبي، وعندما أكتب شيئًا جيدًا، أشعر وكأنه يبتسم لي، وحينها أفكر في أنني كتبتُ شيئًا أستحق الثناء عليه».