1550231
1550231
الاقتصادية

الجائحة ودور الدولة

04 ديسمبر 2020
04 ديسمبر 2020

الإيكونومست: ترجمة قاسم مكي -

بعد كل فترة وأخرى لا تتعدى عقودا قليلةً جدا في القرن العشرين، كانت العلاقة بين الدولة والفرد تُصَاغ مجددا على نار الأزمة. فاز الإصلاحيون الليبراليون في بريطانيا بالانتخابات عام 1906 وسط فقدان الثقة في أفكار المحافظين. وفي أمريكا أعقبت الركودَ العظيم في الثلاثينيات سياسةُ النيوديل (الإجراءات الاقتصادية التي اتخذها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عام 1933 لمجابهة آثار الركود - المترجم). وسبقت الحربُ العالمية الثانية حقبةَ الثلاثين العظيمة (1945-1975) والكينزيةَ (أفكار الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز) التي لم يكن في الإمكان أفضل مما جاءت به وأيضا توسعَ دولةِ الرفاهية والتوظيف الكامل والمضمون من الحكومة. وفي أعوام الثمانينيات قضى رونالد ريجان ومارجريت تاتشر على التضخم الجامح وتدخلِ الدولة في شؤون الاقتصاد والمجتمع بفلسفة الفردانية (تغليب حرية الأفراد على سيطرة الجماعة أو الدولة) والانضباط الاقتصادي التي أنجبت بدورها سياسة الطريق الثالث (الموازنة بين نمو مؤسسات الأعمال وحاجات المجتمع).

قبل كوفيد-19 لم تؤدِّ الصدمات الاقتصادية الكبيرة في القرن الحادي والعشرين (صعودُ الصين والتقدمُ التكنولوجي والأزمةُ المالية) إلى أي تغيير من هذا النوع. وشعر العديد من الناخبين بأنهم فقدوا السيطرة لمصلحة قوى بلا اسم (مجهولة). وتوزعت المكاسب المتحققة من النمو بطريقة غير وافية. ولم تفكر الحكومات في معظمها في كيفية التلطيف من وقع الضربات التي واجهها الناس والأماكن على الجانب الخاسر من التغيير. وربما كان من الممكن الدفاع عن حقيقة أن الأزمة المالية أفضت إلى إصلاح تدريجي وليس جذريا لو لم تكن قد أعقبتها قيود سياسات مالية ونقدية فُرِضَت بسرعة مفرطة.

وكانت النتيجة موجةً من السياسة الغاضبة. ففي بلدان عديدة كان هنالك حنينٌ وسط الناخبين الأكبر سِنَّا لاقتصادٍ، مهما فعلت الحكومات، لن يعودَ أبدا. أما الشباب فقد أحبطهم تراجعُ الحراك الاجتماعي (إمكانية ارتقاء السلم الاجتماعي) وارتفاع أسعار الأصول (السندات والأسهم والعقارات وسواها) ويخشون من آثار التغير المناخي. وعلى الرغم من أن هنالك جدلا حادا حول مدى تغير أوضاع عدم المساواة في الدخل والثروة والفرص على مرِّ الزمن إلا أن كل أحد تقريبا يشكو منها. كما هنالك قلق متصاعد من الوضع الهش، الذي كشف عنه كوفيد-19، للعاملين بقطاع الخدمات في أسواق العمل في العالم الغني.

تعتقد مجلة الإيكونومست أن فيروس كورونا سيعجِّل بالتغيير والتحولات في الاقتصاد. هذا الوضع يطرح خطرا محتملا. إنه فشل الحكومات مرة أخرى في التعامل بطريقة وافية مع عمق التحول. وإذا تفاقمت اللامساواة وازدهرت أسعار الأصول وتقلصت وظائف قطاع الخدمات الحضري وزادت هيمنة شركات التكنولوجيا واتجهت الحكومات نحو التقشف بسرعة زائدة عن الحد ستصبح السياسة أكثر اعتلالا وستشهد المزيد من الاستقطاب بين يمين القومية الاقتصادية المنفلتة ويسار اشتراكية أبناء الألفية الساذجة (أبناء الألفية هم الناخبون الأمريكيون الذين تتراوح أعمارهم بين أواسط العشرينيات وأوائل الثلاثينيات. وهؤلاء يؤيدون عضو مجلس الشيوخ بوبي ساندرز وعضو مجلس النواب الشابة أليكساندريا أوكاسيو كورتيز اللذين يصفان نفسَيهما بأنهما اشتراكِيَّان ديمقراطيَّان- المترجم).

أوجدت الجائحة ظروفا مواتية لنزعة التدخل الخاطئة التي تحاول منع التغيير بدلا عن التكيف معه. فخطوات من شاكلة القروض الحكومية الهائلة للشركات وتقديم البنوك المركزية شيكات على بياض بهدف التحفيز ودعم الحكومة للوظائف تبدو مثل «وصفة» للركود. وليس من شأن إنقاذِ كل شركة فاشلة وحمايةِ الوظائف إلى ما لانهاية سوى جعلِ المجتمعاتِ أكثر فقرا في الأجل الطويل. الشيء نفسه ينطبق على التقهقر الخاطئ باتجاه حماية ودعم الشركات الوطنية الكبيرة.

فبدلا من محاولة استعادة اقتصاد الأمس على الحكومات التكيف مع التغيير وضمان عدم تعريض الناس لخسائر جسيمة والعمل على اقتسام الثمار على نطاق أوسع.

تجارة السلع حاسمة في أهميتها بالنسبة لمستويات المعيشة اليوم. لكن، بفضل الأتمتة، سيتواصل تراجع هذه الأهمية. وتَعِد تجارةُ الخدمات الرقمية في المستقبل بالمزيد من المكاسب. لكن يجب على الساسة إزالة العراقيل التنظيمية عن طريقها. وسيكون هذا صعبا. فهو يعني تعريض المزيد من أصحاب الياقات البيضاء (موظفي المكاتب) الذين كثيرا ما يحظون بالحماية عن طريق التشدد في التراخيص لنوع المنافسة الذي واجهه أصحاب الياقات الزرقاء (العمال) على مدى عقود. كما يعني أيضا حل المشاجرات العابرة للحدود حول الضريبة الرقمية وضمان ألا تشكل القواعد التي تنظم تدفق البيانات عبر الحدود، المنتشر الآن، حواجز أمام التجارة.

من الممكن أن تكون المكاسب كبيرة. فقيام سوق عالمية للعمل الرقمي تحفز عليه استثمارات الشركات في التكنولوجيا قد يطلق موجة ابتكارات جديدة. ويمكن للحكومات نفسها الاستفادة من ذلك. فالرعاية الصحية والتعليم قطاعان ناضجان للإحلال الابتكاري (استحداث أساليب خدمية جديدة) بواسطة مقدمي الخدمات عبر الحدود.

لن يؤيد الناخبون المزيد من إحلال القديم بالجديد دون المزيد من اقتسام المخاطر. يجب أن تكون الحكومات أكثر استعدادا لأداء دور ضامن الملاذ الأخير لدخول العائلات كما فعلت هذا العام. لقد أكد الدعم الطارئ للعائلات على صواب الاعتقاد «الليبرتاري» أن الحكومات أفضل في تحويل الأموال منها في إدارة الأشياء. فدعم الدخل كان أسرع وأكثر شفافية قياسا بأشكال التحفيز المالي الأخرى.

يجب أن تكون الحكومات أكثر استعدادا لحماية دخول العاملين من تأثير أحداث خارج سيطرتهم. والإغلاقات التي نجمت عن تفشي جائحة كورونا من صنف هذه الأحداث. ولكن أيضا الانكماشات الاقتصادية والإحلالات التكنولوجية. «أتمتة» المدفوعات للعائلات في أثناء التراجعات الاقتصادية تحول دون معاناتها وتضمن حصول الاقتصادات على التحفيز الذي تحتاج إليه حين تستقر أسعار الفائدة قريبا من الصفر. والتغير الهيكلي مهم أيضا. فأولئك الذين يتم تسريحهم من العمل يجب دعمهم بمِنَح مالية وإعادة التدريب. صحيح يجب القلق من تشجيع البطالة لكن لا يجب أن يكون الحلُّ شبكةَ أمانٍ هزيلة. فمن الأفضل فرض الضرائب لتمويل دولة رفاهٍ ملائمة بدلا من نصب فخاخ الفقر وتشويه الحوافز (على العمل) بمعايير سيئة الإعداد لتحديد مَن يستحق (الدعم المالي).

تحقيقُ الهدف النهائي لنشر منافع النمو هو المقصد الأشد صعوبة. لقد برهنت أواخر العشرية الثانية على عجائب أسواق العمل التي لا تتوافر فيها قوى عاملة كافية. ففي الفترة بين 2014 و2019 شهدت الدخول العائلية الوَسَطٍية (بين أعلى وأقل دخل عائلي) في الولايات المتحدة نموا أسرع من نموها «الممدوح كثيرا» في أواخر التسعينيات. وعلى الحكومات السعي لإيجاد ازدهار جديد في الوظائف وتجنب اللجوء العجول (قبل الأوان) إلى التقشف والسياسة النقدية المتشددة اللَّذَين أعقبا الأزمة المالية العالمية.

لكن لا مفر من حقيقة أن توزيع الدخل في الأجل الطويل يتشكل بعوامل هيكلية أكثر منه بالدورة الاقتصادية. وتمثل الأهمية التي تضفيها سوقُ العمل على المهاراتِ التقنية إدانةً للتعليم الحديث. لا يمكن لأي أحد قضاء أيامه وهو يكتب لوغريثمات «تعلُّم الآلة». لكن يمكن أن يكون أداء العاملين والشركات أفضل في تطبيق التقنية الموجودة (ما كان ينبغي أن يكون نجاح العمل من البيت بهذا القدر مفاجئا).

يجب أن تجتهد الحكومات لجعل الاقتصاد الرقمي أكثر تنافسية. ذلك يعني تعزيز مقاييس البيانات المشتركة وقابليتها للنقل وتخفيف القواعد الحاكمة للملكية الفكرية. وتعزز حقيقةُ ازدهار الشركات الممتازة على الإنترنت من أهمية إزالة الحواجز أمام ولوج باب المنافسة.

قد تبدو احتمالات النجاح بائسة بالنظر إلى العطب الذي أصاب السياسة في عدة بلدان مؤخرا. لكن يمكن أن يكون عام 2020 بداية لحقبة تترنَّح فيها الشعبوية ويشهد في أثنائها صنعُ السياسة الاقتصادية تحولا. لقد قُلبَت أرثوذكسيات كثيرة (أفكار تُعتبر صائبة) رأسا على عقب. غير أنه من الممكن، مع الاستجابة الصحيحة للتحدي، استعادة بعضها مثل مزايا رأسمالية الاقتصاد الحر.