1550075
1550075
الثقافة

لماذا يرتبط التقدم بالحرب ارتباطا لا ينفصم

04 ديسمبر 2020
04 ديسمبر 2020

ترجمة: أحمد شافعي -

*تنجيل راشد:

طالما كانت الحرب مصدرا لإثارة المشاعر. فاحتدام القتال، وامتلاء البارود، وشبح الموت العنيف، وما شاكل هذه الأشياء، لا يمكن إلا أن تثير في الذهن استجابة ملتهبة بقدر التهابها. ولقد قالها القاضي هولدن في رواية «دائرة الدم» الحربية العظيمة لكورماك مكارثي: «الحرب إله». فرد عليه الجنرال وليم تيكومسيه شيرمان قائلا إن «الحرب جحيم». فماذا تكون الحرب في النهاية؟

في رأي المؤرخة مارجريت مكميلان، وهي من أبرز باحثي العالم في العلاقات الدولية، ليست الحرب هذا أو ذاك. واضح أن مكميلان لا تحبذ النظر إلى التاريخ عبر عدسات أخلاقية من هذا النوع، بل تفضل التدقيق بعين باردة. في كتابها الجديد الصادر بعنوان «الحرب: كيف صاغنا الصراع»، تصور مقدرتنا على الصراع لا بوصفها إلهية أو شيطانية، بل باعتبارها جوهرية في الإنسانية. وتقول: إننا «بفهم الحرب، نفهم شيئا عن إنسانيتنا».

تعرض مارجريت مكميلان علينا جولة سريعة ممتعة في كثير من جوانب الحرب: أصولها في الصراع على الموارد أو على السلطة أو ببساطة على ما وصفه الفيلسوف توماس هوبز بـ«الصغائر»، وتصوراتها في الثقافة الشعبية (وبخاصة في السينما)، والتكتيكات والتقنيات التي تغير حاليا من طريقة خوض الحروب. والكتاب قد يكون خفيفا في ما يتعلق بالنظرية السياسية لكنه ثري في تفاصيله المعلوماتية، فيخلو تماما من الجدل، لكنه يمتلئ بالتحليل الرصين. والبشر فيه يوصفون بما هم عليه، لا بما ينبغي أن يكونوا عليه.

هذا هو نهج المؤرخة الدبلوماسية التقليدية، المنغمسة في الواقعية المسيطرة على مجالها. وهي تجتنب ـ بطبيعتها ـ الأحكام القيمية، غير أن تقييماتها تظهر عرضا في بعض المواضع، كشأنها حين تكتب أن «القوى الكبرى ليست بالضرورة قوى طيبة ـ ولم ينبغ أن تكون كذلك؟ ـ لكنها توفر الحد الأدنى من الأمن والاستقرار لشعوبها». وهذا الإيثار لنهج الواقعية السياسية على المثالية ينسجم مع عملها السابق. ففي كتابها «صناع السلام» [Peacemakers] ـ الذي سردت فيه تاريخ مؤتمر باريس للسلام سنة 1919 وفازت عنه بجوائز ـ وبَّخت وودرو ويلسن لإطلاقه بسذاجة العنان لحركات تحرر فوضوية حول العالم. وفي كتابها «نكسون وماو» دافعت عن المكائد الكيسنجرية القاسية في سبعينيات القرن العشرين، حيث انزاح التحارب الأيديولوجي مفسحا المجال لحسابات توازنات القوى الباردة.

كلا الكتابين يمثل تاريخا سرديا يمسرح كيفية تحقيق السلام. وكان حتما أن تلتفت مكميلان الآن وتوجه ذهنها إلى طبيعة الحرب. ولكن هذا الجهد يقصر عن سابقيه. بدأ هذا الكتاب بوصفه محاضرات ضمن سلسلة محاضرات رايث المرموقة في بي بي سي (والتي سبق أن ألقاها روبرت أوبنهيمر، وجون كينيث جالبريث، وإدوارد سعيد)، وهو يخلو من سردية مركزية. وذلك لأن سلسلة المحاضرات أليق بالمحاججة منها بالحكي. ولكن نظرا لارتياب مكميلان في الأفكار الكبيرة، يكافح كتابها «الحرب» ليظهر سبب وجوده. فبالنسبة لباحثة تكون في أسعد حالاتها حينما تنسج قصة مقنعة من أوراق دبلوماسية مدفونة طال عليها الغياب، تتضاءل فرصة البريق المتاحة لكتاب يفتقر إلى بحث أرشيفي أصيل.

لو أن مكميلان تسمح لنفسها بفكرة كبيرة واحدة، فهي أن «القدرة على إشعال الحرب وتطور المجتمع الإنساني ينتميان إلى القصة نفسها». فظهور الحاسوب والإنترنت لهما أصول عسكرية، ومثل ذلك يصح في حالة الروبوت والذكاء الاصطناعي اللذين سوف يصوغان المستقبل. والتطور السياسي عند مكميلان مدين للحرب التي أوجبت «الدول القومية القوية القائمة اليوم بحكوماتها المركزية وبيروقراطيتها المنظمة». والضرائب والبرلمانات وأسواق السندات ـ كل تلك ظهرت بفضل السعي الحثيث إلى الحرب.

الحرب والتقدم عند مكميلان مرتبطان ارتباطا لا ينفصم، وهو ما يضعها على مضض في تعارض مع تيار منتشر في الفكر التقدمي يرى أن الحرب تنمحي تدريجيا من العالم. وكتاب «The Better Angels of Our Nature» الرائج لستيفن بنكر ذي الثقافة الموسوعية، وهو الكتاب المشار إليه كثيرا في كتاب «الحرب» هو أبرز تعبير حديث عن هذه الرؤية، ويحوي زعما جريئا بأن القرن العشرين- الذي شهد حربين عالميتين وإبادة جماعية ممنهجة- كان في حقيقته فترة سلام نسبي.

انتماء مكميلان الجامعي يمنعها من خوض حرب مباشرة مع بينكر. ومع ذلك، بعرضها كيفية تقدم الحروب بالتوازي مع الحضارة، منذ أن انطلقت بالفعل قبل عشرة آلاف سنة مع ميلاد الزراعة ومن ثم تقسيم الأراضي، تتحدى مكميلان زعمه بوجود «عملية تحضر». فالحرب ليست السلوك الرجعي الذي نتصوره، وإنما هي لسوء الحظ شديدة التطور بل لعلها بحسب ما تكتب مكميلان «أكثر الأنشطة الإنسانية تنظيما».

هذه الرؤية الهوبزيانية التشككية للطبيعة البشرية التي تمثل الحرب فيها «جزءا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية» قد تكون غير مبهجة لنا كسلالة، لكنها على أقل تقدير تنبهنا. فما يطلق عليه بينكر وآخرون «السلام الطويل» لم يدم إلا منذ عام 1945، وفي عالم أسلحة الدمار الشامل قد يعد هذا السلام زائدا عن الحاجة في أي لحظة من جراء فعل أحادي لحظي قاس، ومثلما دمرت الحرب العالمية الأولى آمال السلام المستمر التي كان يشجع عليها ما عرف بالهيمنة البريطانية على العالم.

وأقول ما عرف بالهيمنة البريطانية، لأنها كانت فكرة مشكوكا فيها شأن هدنة الحرب الباردة التي تتجاهل الحروب الإمبريالية الضارية التي جرت خارج أوربا وأمريكا. تشير مكميلان إشارات قليلة إلى الكولونيالية في استعراض كان يمكن بالفعل الاعتماد عليه لولا هذا السبب، كما كانت بعض المصادر غير الأوربية لتوسع من منظور الكتاب. وبجدر بالملاحظة على سبيل المثال أنه في حين لا يكاد يوجد غربي اليوم يوافق القاضي هولدن في «دائرة الدم»، فإن تأليه العنف ـ الذي يبدو لنا من تراث العصور الوسطى ـ لا يزال قائما في أشكال حديثة كالماوية والجهادية مؤججا الصراعات المستمرة من بيرو إلى الفلبين.

وهل هذا الموقف في نهاية المطاف غريب عنا إلى هذا الحد؟ إن هذا الكتاب سيترك كل قارئ يشعر بالثقة في نزعات السلام الغربية في ما بعد الحرب. إننا نعظم الحرب منذ «الإلياذة» على الأقل، وعسكريتنا نصف الدفينة يمكن أن تقوم من مدفنها بسهولة للسبب الصحيح أو الخاطئ. ونحن حينما نصف منجزا بـ«الملحمي» أو مهمة بـ«الهرقلية» أو نكتشف في عدو «كعب أخيل»، إنما نفضح في أنفسنا توقا سريا إلى ساحات المعارك الدامية الطروادية باعتبارها معيارا للسلوك البشري.

*كاتبة المقال صحفية في بي بي سي بلندن

نشر المقال في واشنطن بوست