أفكار وآراء

المعـرفـة والهـويــة السـيـاسيــة !

02 ديسمبر 2020
02 ديسمبر 2020

محمد جميل أحمد -

بين المعرفة والسياسة علاقة جدلية، إذا نظرنا للسياسة بوصفها إدارة، بحيث يمكننا القول: إن سياسة المعرفة هي التعرف على الطبيعة الإدارية لطرق المعارف وأنواعها ومنهجيات تصريفها في تطبيقات العلوم.

لكننا سنجد أن المعنى العام لمعرفة السياسة هو أمر يتصل بطبيعة خاصة لإدارة الشأن العام، ولهذا فإن سياسة المعرفة ليست هي معرفة السياسة!

إن اختبار السياسة بالمعرفة، أي سياسة المعرفة، هي التي تدلنا على الحد الفاصل والمنتج للمعنى والقيمة بين مطلق السياسة، كسياسة، وبين تحديد السياسة كمعرفة. والفرق شاسع بين أن تكون هناك إدارة لشأن عام لا تختبر قوانين الواقع فيه بنظريات المعرفة، وبين معرفة تنتج سياسة!

إن سياسة المعرفة تعكس هيمنةً للفكر على القرار، فيما لا تعكس مطلق معرفة السياسة بالضرورة هيمنة للفكر على القرار؛ فقد يكون القرار خالياً من أي رؤية أو فكر، أو نتيجة لضغوط. ومن هنا نتصور أن كثيراً من المشكلات التي تعكسها مطلق معرفة السياسة تنتج في كثير من الأحيان واقعاً أكثر تعقيداً في نتائج القرارات السياسية ذاتها. ذلك أن المعرفة هنا حين تغيب عن السياسة لا يعني غيابها ذاك انفكاكاً للسياسة منها؛ بل يعني مأزقاً للسياسة ذاتها.

إن الهوية السياسية للمعرفة قد تعني بصراً بإدارة القرار في الشأن العام الذي تتبناه السياسات من واقع وخلفية العلوم السياسية، وهي علوم بالتأكيد تلعب دوراً كبيراً في ضبط الوعي بمسار السياسة دون أن يكون ذلك بالضرورة وعياً بسياسة المعرفة. ولأن العلوم السياسية اليوم هي ترجمة ما للحداثة السياسية، والحداثة السياسية هي جزء أصيل من المعرفة الحديثة، وهي معرفة مادية في صميمها، فإن الموازين التي تنعكس في الاعتبارات السياسية للمعرفة (وليس الاعتبارات المعرفية للسياسة) كموازين القوى مثلاً، وحيث إنها لا تنتظم العالم بسوية واحدة من صورة الإدراك الذي أنتجته الحداثة لموازين القوى؛ فإن ظاهرة كظاهرة الإرهاب تكون خارج أي توقعات للحدود الموازين التي تفترضها مفاهيم الحداثة السياسية كمفاهيم مطردةً في كل العالم، وذلك فقط بالاستناد على قياس حصري بالمركزية الأوروبية للعالم.

لقد كانت الحركات الإرهابية ذات المنشأ الأوروبي ذي الجذور الفوضوية (حركة بادر ماينهوف وغيرها) نتيجة سالبة من نتائج الحرب الباردة (وهو إرهاب امتد حتى نهاية السبعينات) على فظاعته، أمر قابل للبصر في الجذور العدمية لجدواه (وهذا ما حدث بعد ذلك) لكن ظاهرة إرهاب الجماعات المتطرفة، لن تكون في وارد أي مقاربة أوروبية أو غربية ناجعة، كما تحاول فرنسا القيام ببعض الجهود في ذلك، وإنما هو أمر مرتبط بالتخلف في تعالقه بنتائج عنف الحداثة السياسية التي أدخلت فيها أوروبا العالم الإسلامي؛ مرحلة الحقبة الاستعمارية.

هكذا سنجد أنه ليس بالضرورة أن تكون مطلق السياسات قادرة على إيجاد حلول لقضايا الإرهاب المركبة، لكن ليس هذا فحسب، بل كذلك في بعض الأحيان سيبدو لنا أن ما حسبته الحداثة السياسية ناموساً (المادية) لن يكون قادراً على فهم ظاهرة إرهابية خطيرة وعدمية مطلقة مثل ظاهرة إرهاب الجماعات المتشددة ناهيك عن وضع الحلول لها.

ولعل المفارقة هنا أن سياسيات أوباما نحو المنطقة العربية خلال ما سمي بالربيع العربي في فترته الرئاسية ظنت في الإسلام السياسي ما يمكن أن يكون حلاً لمأزق الشرق الأوسط وفق تصور ديمقراطي على قياس الديمقراطية الغربية، لكن إدارة أوباما لم تستشعر الأبعاد وراء ذلك.

إن الهوية المادية للحداثة إذ تعبر عن أسوأ نماذج خللها في ما سمي بالقانون الدولي وعلى رأس ذلك؛ (فيتو) الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن؛ فإنها في نهاية الأفق ستجعل في أساس العلاقات السياسية الدولية بين دول العالم نصاباً للظلم غير المبرر بذلك (الفيتو) حين يقع ضد مصالح شعب في دولة غير دائمة العضوية في مجلس الأمن مثلاً، ككل (الفيتوهات) التي كانت تعترض عليها روسيا في موقفها من الدفاع عن الحكومة السورية!