أفكار وآراء

الدولة المدنية بين الديني والسياسي «2»

02 ديسمبر 2020
02 ديسمبر 2020

عبدالله العليان -

الواقع أن الدولة في الواقع العربي الإسلامي، تأسست على أسس مدنية وليست دينية، بالقياس على الدولة الأوروبية الإمبراطورية كما تسمى بـ «الثيوقراطية»، وفق المصطلح الغربي، أو كما تعرف بالحق الإلهي، كما أشرنا في المقال الأسبوعي، والبعض من الباحثين من المستشرقين ومن تبعهم ممن تأثروا بمدرسة الاستشراق غير المنصف، خلط بين الممارسة التي سادت في الإمبراطورية الرومانية، وما تبعها من حكومات، من إضفاء لأوامر الإمبراطور أو الحاكم قدسية، تستمد من السماء، وهذا يتقارب من أسس قيام الدولة في المجتمع العربي الإسلامي، منذ العصر الأول، وهناك الكثير من الأمثلة في الشأن.

فالرسول صلى الله عليه وسلم، تمت بيعته مبايعة مدنية بمقاييس عصرنا، وبظروف ذلك الزمان وبدايات التأسيس، وهذه البيعة تعتبر عقدا سياسيا واجتماعيا على أسس مدنية، وليس إلى ما يعتقد البعض من إسقاط النظام الثيوقراطي في الكنيسة الغربية على الإسلام، قبل إحجام سلطتها تجاه السياسة والعلم إلى آخره، وقد سبقت هذه البيعة الكثير من النظم السياسية، قبل ذلك وبعده، ومن ذلك وثيقة المدينة التي وقعها الرسول صلاة الله وسلامه عليه، بعد قيام الدولة في العصر الأول، مع يهود يثرب، وبعض القبائل العربية غير المسلمة، وقد شرحت ذلك في كتابي (الأمة والدولة والمواطنة في الفكر الإسلامي)، أن الأمة تحققت بشكل كامل مع اتساع رقعة الإسلام، وإقامة الدولة المدنية، لكن المرجعية تكون إسلامية في مجالات التي تتعلق بالعبادات والمعاملات، أما في المجال الذي لا نص فيه، وهو المجال الأوسع في القرآن الكريم، ذلك أن أغلب آيات القرآن الكريم مجملة أو كلية، وليست مفصلة، وهذه حكمة إلهية، لتغير الزمان والمكان، ومن هذه الآيات التي فصلت في القرآن الكريم، منها (آيات المواريث، جرائم الحدود، وأحكام الأسرة، والصيام والزكاة) وغيرها من الأحكام، ويقول د. عبد الحميد متولي في مسألة القواعد الكلية التي وضعها القرآن الكريم، هي: «الأحكام الشرعية الخاصة بتلك الجزئيات، تتغير بتغير ظروف البيئة والمكان وتتطور بتطور الزمان، فاقتصر القرآن فيها على المبادئ، أو القواعد العامة التي تتضمنها العدالة ولا تختلف باختلاف البيئات، ولم تتعرض للتفصيلات» ليكون ولاة الأمرـ على حد تعبير الأستاذ الكبير الشيخ خلاف ـ في كل عصر في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها حسب مصالحهم في حدود أسس القرآن من غير اصطدام بنص جزئي.

ولذلك فإن الحديث النبوي المعروف (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وهذا الحديث كما روي عنه (ص)، يتعلق بالحادثة الشهيرة عن تأبير النخل(تلقيحه)، وهي خبرة بشرية، عندما أقترح عليه الصلاة والسلام اقتراحاً، لكنه لم يأت وفق الخبرة المعتادة، فقال هذا الحديث. والإشكالية أن بعض الليبراليين لا يعترفون بالأحاديث النبوية، ويشككون في صحتها، لكنهم عندما يريدون نفي التشريع أو قضية الإسلام والدولة، يركزون على هذا الحديث، مع أن هذا الحديث ـ إن صح ـ لا يدخل لا في التشريع أو في الجانب السياسي، بل يتعلق بخبرة زراعية بشرية في حياة الاجتماع الإنساني، كما أن هناك تصرفات من النبي (ص) تشريعية، وبعضها غير تشريعية، منها التصرفات المتعلقة بالأمور الإنسانية العادية، والجبّلة البشرية، والتصرفات الإرشادية، وغيرها من التصرفات التي لا تدخل في مجال التشريع، وفي هذا يقول ابن القيم الجوزية في هذا التفريق: «لا يجعل كلام النبوة الجزء الخاص كلياً عاماً، ولا الكلي العام جزئياً خاصاً، فيقع من الخطأ وخلاف الصواب ما يقع».

ولا شك أن الكثير من الأقلام ما تزال تبحث وتناقش في قضية التجربة النبوية بشكل أعمق خاصة مسألة الدين والدولة، والحقيقة أن هذه المقولات ليست جديدة، فقد طرحها العديد من المستشرقين في ظروف كثيرة لأسباب لا تخفي على المتابع الحصيف كما هي رؤية متحاملة وتطرح أفكارا تناقضا ما هو مستقر عند بعض الباحثين في هذا الجانب، وشائع هذا الطرح عند بعض من أبناء جلدتنا ممن تأثروا بالفكر الاستشراقي، وقد تراجع بعض هؤلاء عن هذه النظرة، ولا يزال البعض يردد هذه المقولة بين الفينة والأخرى، لكنني أرى أن هذه الآراء غير دقيقة وغير صائبة في رؤيتها للتجربة الإسلامية الأولى، وتأسيس الدولة، وما تلا ذلك من توسع في نظم الدولة وقوانينها باطراد، ولا شك أن الدول في العصر الإسلامي مارست ـ كما يقول د. محمد سليم العوا كل: «طرائق الدولة في كل مجالات الاجتماع السياسي، ولم تترك شيئاً مما تمارسه الدولة اليوم، أو كانت تمارسه الدول في القديم إلا مارسته، حاربت وسالمت، علمّت وقوّمت وهذبت، جمعت الضرائب والأموال أو جمعت الزكاة والصدقات ووزعتها على المحتاجين. بنت للمنكوبين، أرسلت البعوث تبشر بما تدين به من عقيدة، واستقبلت البعوث من الملوك والأمم المجاورة لها تسمع رأيها وكلمتها. لم تبق شيئاً من وظائف الدولة إلا مارسته، ومع ذلك فقد امتازت عن كثير من الدول التي عرفت بعدها، إلى أن اكتشف الناس سبب هذا التمييز فاقتبسوه منا وجعلوه شعاراً لذلك الكيان الاجتماعي الذي نسميه الدولة، ذلك الامتياز كان مصدره قاعدة عجيبة في ذلك الوقت هي قاعدة تقيد الدولة بالقانون».

فقضية قيام الدولة في العصر الإسلامي قضية بديهية، جاءت كنتيجة لوجودها، فالإسلام إلى كونه عقيدة إلهية، هناك شريعة تتضمن الكثير من الأحكام والقوانين، التي تنظم العلاقات بين الناس بين بعضهم البعض، إلى جانب الواجبات الأخرى التي تم ممارستها عمليا، كالعلاقات مع الدول من خلال الرسائل، والتعريف بالإسلام الخ: وقد كتبت ناقداً لمقولة الشيخ علي عبد الرازق، إن الإسلام دين لا دولة، رسالة لا حكم، وقلت في هذا بحثي الذي حمل عنوان (علي عبد الرازق ورؤيته إلى الدين والدولة): «إن هذا الرأي الذي طرحه علي عبد الرازق يعتبر سابقة في الفكر الإسلامي بما طرحه في هذا الكتيب، ذلك أن الإسلام وان كان لم يعتبر الدولة والسلطة جزءا من الدين، لكن الدولة والسلطة ضرورة من ضرورات تطبيق شرائع الدين، لأن الإسلام عقيدة وشريعة، وهذه الشريعة لا بد لها من الدولة والسلطة، وقد تحققت هذه الدولة في العصر الراشدي وما بعده، وهذه مسألة بديهية وضرورة عقلية للأمة وللمجتمع، لتطبيق الدين وتنفيذ أوامره وتكليفاته التشريعية. ولم يقل أحد أن الدولة والسلطة أمراً إلهياً، والفقهاء المسلمون في أغلبهم اعتبروا الإمامة من الفروع وليست من الأصول.

وهذا الذي قاله عبد الرزاق فيه خلط عجيب بين الرؤية الإسلامية للدولة، وما كانت عليه الكنيسة المسيحية قبل تجريدها من صلاحياتها في القرن السابع عشر الميلادي. وهناك الكثير من مواقف للخلفاء الراشدين، تبرز أن الخليفة أو أمير المؤمنين، رأيه ليس معصوما ولا مقدسا، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، قال في اليوم التالي لتوليه الخلافة، ووقف يحدد فيه برنامجه السياسي بمقاييس العصر: «أيها الناس: إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح عنه علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله». وقد مكث علي عبد الرازق أربعين عاما صامتا عن الرد حتى وفاته رحمه الله، عام 1966، وقد دارت في الأوساط الفكرية والدينية في مصر وفي غيرها من البلاد الإسلامية الكثير من التساؤلات والترجيحات حول هذا الصمت والانزواء عدا بعض المحاضرات والمناقشات العلمية لطلبة الدراسات العليا، وعن سبب إصداره لهذا الكتاب؟ وهل كتب عبد الرازق هذا الكتاب لمعارضة الملك فؤاد الأول للمملكة المصرية، لإعلان نفسه خليفة للمسلمين بعد سقوط الخلافة الإسلامية؟ أم أنه تأثر ببعض أراء المستشرقين حول الديانة الروحية للإسلام؟ أم أن الكتاب نفسه ليس من تأليف علي عبد الرازق أصلا، وهو مجرد اسم على مخطوط هذا الكتاب؟ فهل صحيح أن عبد الرازق اعترف لبعض المقربين منه أنه لم يؤلف الكتاب؟ أم أن هناك أسباب أخرى ظهرت بعد ذلك قالها عبد الرزاق لبعض أصدقائه المقربين. الحقيقة أن الارتباك والتناقض في بعض فصول الكتاب (الإسلام وأصول الحكم) يبرز أن هناك عدم اقتناع عقلي وفكري من الشيخ علي عبد الرازق، ذلك أن الرجل الأزهري والقانوني لا تقيده تلك التناقضات الجوهرية الأساسية في الفكر الإسلامي، خاصة ما قاله في هذا الكتاب (أن الرسول لم يكن رسولا فحسب، بل أنه كان حاكما، حيث قال ما نصه «من أجل ذلك كان سلطان النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى رسالته سلطاناً عاماً، وأمره في المسلمين مطاعاً، وحكمه شاملاً، فلا شيء مما تمتد إليه يد الحكم إلا وقد شمله سلطان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نوع مما يتصور من الرياسة والسلطان إلا وهو داخل تحت ولاية محمد صلى الله عليه وسلم على المؤمنين») ص69 من كتاب (الإسلام وأصول الحكم).