EIgTl0-WkAAprSK
مع " سياحة إلى مسقط"
02 ديسمبر 2020
02 ديسمبر 2020
محمود الرحبي
"سياحة إلى مسقط" كتاب صدر ضمن سلسلة عمان في ذاكرة الصحافة، وهو الجزء الأول من هذه السلسلة، قام بجمعه وتقديمه وليد بن سعيد النبهاني. والسلسلة بدورها جزء من سلاسل تحمل عنوان "ذاكرة عمان" تعني بالتاريخ والتراث. كتاب "سياحة في مسقط" الذي جاء في 95 صفحة، عبارة عن وصف لرحلة قام بها الكاتب السوري المقيم بالقاهرة عبدالمسيح أنطاكي، إلى مسقط، التقى فيها السلطان فيصل بن تركي. وتكمن أهمية هذا الكتاب على قصره، في أنه أحد المصادر العربية لتاريخ عمان، فرغم أن الكتاب ذو طابع ذاتي بيوغرافي، إلا أن السير الذاتية أو اليوميات أو النص التاريخي (وجميع صنوف كتابة الذاكرة عموما) من أهم صفاتها وسماتها، ليس ما سنعرفه عن تحركات كاتبها، إنما الكم العميق الذي يكمن تحت "الحثالة الطافية"، حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي "بول ريكور". فما سنجده تحت هذه الحثالة، التي في ظاهرها تنقلات الكاتب وحياته، هو صورة المجتمع -أي مجتمع كان- في وقت كتابة هذه السيرة أو المذكرات. لذلك فإن أهمية المذكرات تتجاوز الأهمية التعبيرية والجمالية، أو حتى الأهمية السيميائية الدلالية، إلى ما هو اجتماعي وتأريخي. لذلك فإن مثل هذه النصوص تتميز من هذه الناحية على النص الأدبي، ولكن دون أن تتجاوزه، فنصوص الذاكرة و اليوميات – في الغالب الأعم- هي نصوص أدبية، أو هي تحرص على ذلك كل الحرص؛ بل إن الخالد والباقي منها من يستطيع الالتصاق بأدبية النص وجمالية التعبير، ولنا خير مثال في ذلك، الكتاب العربي الخالد "الامتاع والموانسة" لأبي حيان التوحيدي، الذي من أهم فوائده، إلى جانب الفائدة الأدبية والجمالية، هو ذلك المسح الوجداني والثقافي الذي عكسه في زمن حياة الكاتب، والذي استفاد منه الباحثون في مختلف صنوف التخصصات والمعرفة، سواء في الأدب أو الفلسفة وغيرهما، على سبيل المثال حين نتذكر المناظرة المهمة التي دارت في مجلس الخليفة بين الفيلسوف والمنطقي يونس بن متى والنحوي أبي سعيد السيرافي، هذه المناظرة مازالت حتى الآن مدار استفادة من مختلف التخصصات العلمية. وبالعودة إلى يوميات "سياحة إلى مسقط" فهو يضم بين دفتيه معلومات نفيسة تعكس (حياة الزمن) الذي زار فيه الكاتب مدينة مسقط وهو التاريخ الموثق بشهر نوفمبر من العام 1907 وفيه قابل الكاتب السلطان فيصل بن تركي الذي كان في استقباله على باب قصره وقد أكرم وفادته، بل خصص له يخته الخاص للإقامة، كما قابل لاحقا ولي عهده الأمير تيمور بن فيصل رحمهما الله. وفي هذا الكتاب سنجد وصفا دقيقا لمسقط (المحصنة تحصينا طبيعيا بالجبال) كما ذكر الكاتب. كما نجد وصفا لمجموعة من الأماكن وذكرا لبعض المواقف الملفتة؛ فمثلا في فصل بعنوان "آيات كرمه" نقرأ الموقف التالي: "روي لي عن آيات كرم سمو مولانا السيد فيصل ما تجاوز فيه كل حد، في ذات يوم دخل عليه أحد الدروايش، فأنعم عليه بعشر ريالات، وكتب له بذلك بطاقة ليقبضها من وكيله، فسبقه القلم، فوضع بعد الواحد صفرين عوضا عن الصفر، فأصبح المبلغ مئة ريال. فلما قدم ذلك الفقير على الوكيل اشتبه بالأمر، أولا لأن المنعم عليه لايستحق عادة أكثر من عشرة ريالات، ثانيا كانت البطاقة هكذا "سلموا لحامله 100 ريالات" فوجود التاء يدل على أن الأمر بعشرة وليس بمئة، وعلى ذلك أخذ الأمر، وخرج إلى سمو مولانا السيد، وسأله عن المبلغ الذي أنعم على الفقير، فقال عشرة ريالات، فقال ولكن هنا مكتوب 100، والفقير يطلب المئة، فقال أرني الأمر، فعرضه عليه، فلما نظر تبسم، وقال له ادفع له مئة لأني لا أريد أن يكون القلم أكرم مني". إلى جانب مجموعة من المواقف التي تدلل على رحابة التعايش ونبذ الطائفية، والصدق المتبادل في الشعور بين المسيحي العربي حتى على الإسلام، فالكاتب عبد المسيح الإنطاكي رغم أنه مسيحي الأرومة، إلا أنه نشأ بين المسلمين وأحبهم وأحبوه وتعايشوا معا كأخوة، لذلك شعر بأنه لزاما عليه أن يدافع عنهم حتى في غيابهم، ومن الأمثلة العديدة على ذلك، أنه حين كان عائدا من عدن إلى مسقط، التقى في السفينة مستشرقا شابا فنصحه قائلا: "فرجوناه أن يتدبر في ما يكتب، وأشرنا إلى ما ارتكبه مؤلفو الإفرنج من الخطأ في كتاباتهم الإسلامية باعتمادهم على كل ما يسمعونه بغير تدبر وإعمال فكر" وكان ذلك الشاب هو من سيكون المستشرق الفرنسي الشهير "لويس ماسينيون" الذي أفنى جزءا من عمره في التحقيق و الكتابة عن أعلام تاريخنا وتراثنا الصوفي العربي، وخاصة الحلاج. في المذكرات كذلك – ومن المواقف العجيبة – أنه حين كان في سواحل الهند، منع الركاب من النزول عن السفينة، وذلك لتفشي وباء "كورنتينا" الذي يذكرنا اسمه بوباء "كورونا" الذي يجتاح العالم في وقتنا الحالي، ولكن للكتاب رأي حازم في حقيقية كورونتينا هذا، وهو أنه ليس سوى حديث خرافة، مستعينا بالبيت العربي الشهير "حديث خرافة يا أم عمر" فهل بإمكاننا أن نقول يوما عن وباء "كورونا" بأنه "أيضا" حديث خرافة؟