أفكار وآراء

التحولات المحتملة للسياسة الخارجية الأمريكية: القضية الفلسطينية

30 نوفمبر 2020
30 نوفمبر 2020

د. صلاح أبونار -

الأمر المرجح أنه عندما يشرع الرئيس الأمريكي الجديد في إطلاق سياسته الخارجية تجاه المنطقة العربية، سوف يكون الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي على رأس أولوياته. لكن الرئيس سيجد نفسه في مواجهة مفارقة كبيرة. فبينما تشكل القضية الفلسطينية بؤر حقيقية للتوتر الإقليمي القابل للانفجار، وبينما يتطلع الفلسطينيون ومعهم قلة من القوى الإقليمية الأخرى لدور أمريكي جديد يناقض الدور الذي أطلقه ترامب، نجد قوى إقليمية أخرى ضالعة بقوة في مسار الأزمة راغبة في الإبقاء على هذا الدور في الحدود التي أوصله إليها ترامب، أي نفس الحدود التي تجعلها مهيئة للانفجار. ما هي التحولات المتوقعة التي سيطلقها بايدن تجاه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي؟ وما هي حدود العودة إلى تراث سياسة الرئيس الأسبق أوباما؟

في النصوص المتوفرة من برنامج الحزب الديمقراطي 2020، مرورا بحوار بايدن مع مجلس العلاقات الخارجية أغسطس 2019، وحتى تصريحاته في اجتماع مع متبرعين يهود مايو 2020، سنجد أن العنصر الذي يتصدر رؤيته للصراع هو الالتزام الصارم بوجود وأمن إسرائيل. في نص البرنامج نقرأ ما يلي :»الديمقراطيون يعتقدون أن وجود إسرائيل قوية وديمقراطية يمثل أمرا حيويا للمصالح الأمريكية، والتزامنا بأمن إسرائيل وتمتعها بقدرة عسكرية كيفية، وحقها في الدفاع عن نفسها، ومذكرة التفاهم لعام 2016، هو التزام صارم»، وفي حواره مع مجلس العلاقات يطالب الفلسطينيين باحترام: «شرعية إسرائيل كدولة يهودية تتواجد في الأراضي التاريخية للشعب اليهودي». وهنا نتوقف للإشارة إلى مذكرة 2016. في 14 سبتمبر 2016 أي قبل نهاية ولايته الثانية بشهور، ودونما وجود دافع يتصل باستمراره في السلطة، وقع الرئيس باراك أوباما الذي اعتبره 63% من الإسرائيليين في فبراير 2016 أسوأ رئيس أمريكي في علاقته بإسرائيل على مدى الثلاثين عاما الماضية، مذكرة تفاهم تمنح إسرائيل مساعدات عسكرية بقيمة 38 مليار دولار على مدى عشر سنوات، فيما وصفه أوباما بكونه» أكبر قرار بالالتزام في تاريخ المساعدات العسكرية الأمريكية». وكان قد منح إسرائيل خلال الفترة 2009 - 2016، ما يوازي 8,5 مليون دولار يوميا مساعدات عسكرية وفقا لبيان رافق توقيع المذكرة. ماذا عن بقية عناصر السياسة الخارجية؟ سنعثر على ثلاثة عناصر أساسية أخرى. يفيد الأول التمسك بحل الدولتين، وحق الفلسطينيين في تقرير المصير الوطني وإقامة دولتهم الوطنية، واستئناف الدعم الاقتصادي للسلطة الفلسطينية والمنظمات الدولية الداعمة، والسماح لها بإعادة فتح مكاتبها السياسية في واشنطن. ويفيد الثاني رفض التوسع في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والضم الإسرائيلي لأراضيها، ولكن في مقابل التشديد على هذا التعهد الديمقراطي التقليدي نجده يتعهد أيضا بعدم وضع شروط سياسية على المساعدات العسكرية الممنوحة لإسرائيل. ويتصل العنصر الثالث بالموقف من القدس. وهنا نجد مزيجا من الحسم والغموض. يبدو الحسم في الموقف من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. ليس هناك تراجع عن قرار ترامب، وسوف تظل عاصمة لإسرائيل وغير قابلة للتجزئة. ويبدو الغموض في التعامل مع الحقوق العربية تجاه المدينة. سوف يظل وضعها النهائي موضوعا للتفاوض، ويجب أن يتمتع أتباع الديانات الأخرى بالحق في الوصول إلى القدس.

ما هي حدود التطور والتراجع بين مواقف برنامج 2020 ومواقف برامج الانتخابات السابقة؟ يمنحنا المعلق الإسرائيلي هيرب كينون إجابة على درجة من التفصيل، في مقال نشرته جيروساليم بوست في 28 يوليو 2020. مثل البرامج السابقة كرر برنامج 2020 الإشارات إلى ضرورة إسرائيل القوية الآمنة لأمن أمريكا، وأعاد نفس الموقف السابق من القدس. وفي بعض نصوص البرنامج مني الراديكاليون الديمقراطيون بهزيمة، فرفضت مقترحاتهم بربط المساعدات العسكرية بالتزام إسرائيل بعدم مواصلة توسعها الاستيطاني، ورفض استخدام مصطلح « الاحتلال « الإسرائيلي، ورفضت عبارة « الاعتراض على المستوطنات» واستخدم بدلا منها الاعتراض على»توسيع المستوطنات». ويجري كينون تتبعا مقارنا بين موقف البرنامج بمواقف البرامج السابقة تجاه عدة مفردات سياسية هامة. أولها عبارة « العلاقات الخاصة». في برنامج 2000 نقرأ «علاقتنا الخاصة مع إسرائيل تقوم على أساس راسخ من القيم المشتركة والالتزام المتبادل بالديمقراطية»، وتكررت ذلك في برامج 2004 و2008. وفي برنامج 2012 حدث تطور إيجابي فغابت كلمتا» العلاقات الخاصة» وفي برنامج 2020 اختفت كلمتا « القيم المشتركة»، ليصبح النص البديل» يؤمن الديمقراطيون بأن إسرائيل القوية الآمنة الديمقراطية تمثل أمرا حيويا للمصالح الأمريكية». وثانيها عبارة «أعمال من طرف واحد». حدث تطور إيجابي. ينص برنامج 2020 على «يعارض الديمقراطيون بقوة أي خطوات أحادية لضم الأراضي، من شأنها أن تضر بتوقعات حل الدولتين». وليست تلك أول مرة يعارض فيها الحزب الأعمال أحادية، فلقد ورد ذلك في برنامج 2000 ولكن كان المقصود بها أعمال السلطة الوطنية الرامية لإعلان الاستقلال من طرف واحد. وثالثها كلمة «مستوطنات». رغم رفض لجنة البرنامج لتبني تعديل يعارض المستوطنات، اضطرت لإدخال كلمة «مستوطنات» لأول مرة من عام 2000 ولكن عبر معارضة «التوسع في المستوطنات» وليس المستوطنات ذاتها. ورافق ذلك تطور آخر إيجابي. في برامج 2004 و2008 وردت الفقرة التالية «ليس من الواقعية توقع عودة إسرائيل العودة الكاملة لخطوط هدنة 1949». ولكن في برنامج 2016 اختفت تلك العبارة، وجاء برنامج 2020 ليحافظ على غيابها. ورابعها يتعلق بكلمتي «الدولة الفلسطينية». جاء أول ذكر لهما في 2004 كما يلي» نؤيد إنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية، ملتزمة بالحياة في سلام وأمن بجوار دولة إسرائيل». وجاء برنامج 2020 مدعما للمضمون السابق ولكن مع اختلافين. كان برنامج 2004 قد أشار لمشكلة اللاجئين ولكن عبر توطينهم في الدولة الفلسطينية وليس إسرائيل، وجاء البرنامج الجديد ليتجاهلها تماما. ولم يشر برنامج 2004 إلى صفة استقلال الدولة الفلسطينية، وجاء البرنامج الجديد بعبارة غامضة «حق الفلسطينيين في الحياة بحرية وأمن داخل دولتهم القابلة للبقاء».

جاءت سياسة بايدن الفلسطينية لتخرجنا من جحيم سياسة ترامب، ولكنها بالتأكيد لم تدخلنا فردوس المطالب الفلسطينية - العربية ولا حتى اقتربت من أبوابه. لماذا؟ رصدنا في تحليل كينون إيجابيات، لكنها تظل جزئية لا ترتقي لنقلة كيفية. لا تعارض رؤية 2020 المستوطنات من حيث المبدأ بل التوسع فيها. وتطالب بنهاية الاحتلال، ولكن ليس في حدود 1967 بل مع تعديلات حتمية. وتطالب بدولة فلسطينية حرة وآمنة وديمقراطية، لكنها لا تريدها مستقلة كاملة السيادة. ومن شأن أي محاولة تكتفي بالإمساك بتناقضات وقصور تلك السياسة، أن تقودنا إلى حالة من العدمية السياسية. وسوف يكون من الأفضل أن نطرح سؤالا مؤلما: هل تمتلك تلك الرؤية رغم قصورها القدرة على النفاذ في الواقع؟ والإجابة كلا، للأسف الشديد. لماذا؟ هناك -أولا - حسابات الموقف الأمريكي. لن يجد بايدن الكثير من الوقت والطاقة، لكى يوجههما إلى المشكلة الفلسطينية. سينهمك في عامه الأول في رأب الصدع القومى الذي خلفه ترامب، ومعالجة الخلل الاقتصادي والاجتماعي الذي أحدثه الوباء. وبعد ذلك سيكون في مقدوره الالتفات للخارج، لكن هنا ستكون الصين على رأس أولوياته بينما تقترب الانتخابات النصفية. والمشكلة أن نتائج انتخابات 2020 النصفية سجلت تقدما جمهوريا قد يتصاعد في الانتخابات النصفية القادمة، ومن شأن هذا أن لا يمنحه شعورا بحرية الحركة، وبالتالي يقيد قدرته على إطلاق مبادرات خارجية صدامية بطبيعة مجالها. وهناك - ثانيا - غياب قوى الضغط العربية. كان النظام الإقليمي العربي يمتلك أقصى قدراته على الفعل في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، في الفترات التي تشهد أقل درجات صراعاته الداخلية، وأقصى حالات إجماعه على طبيعة التحدي الإسرائيلي، وأعلى درجات استقلاليته كنظام إقليمي عن محيطة الدولي والإقليمي. واليوم نراه في أدنى حالاته في المجالات الثلاثة. فهو على مدى عقد يشهد انهيارا سياسيا وحروبا أهلية في أربع دول هامة، ومن حولها تنتظم شبكة من حروب الوكالة الإقليمية والتدخلات الخارجية. وهو يشهد تفككا في الإجماع القديم حول طبيعة التحدي الإسرائيلي، حمل معه تحالفات جديدة ومعها تراتبية جديدة للصراعات الإقليمية، والأخطر حمل تراجعا حادا في موارد القوة العربية المغذية للفلسطينيين. وهو في النهاية أصبح ساحة مفتوحة تماما أمام تدفقات الأدوار الخارجية، تأخذ شكل تدفقات دول الجوار الجغرافي مثل تركيا، وشكل التدفقات التقليدية للقوى العظمى ولكن بأشكال أكثر عمقا واتساعا، وشكل تدفقات الحركات المتطرفة العابرة للبلدان. وهناك - ثالثا - الوضع الراهن لطرفي الصراع. لم تعد إسرائيل تستشعر تهديدا يذكر لأمنها من الجانب الفلسطيني، ورغم تراجعها عن التزاماتها وجدت الكثير من أبواب العرب مفتوحة أمامها وبعضهم على استعداد للضغط معها على الفلسطينيين، وهي لم تنجح فقط في تحويل سياساتها إلى أمر واقع بل أيضا في الحصول على شرعيتها من ترامب ليجد يايدن نفسه ملزما بها. كما يبدو الفلسطينيون ضحية لثلاثة أنماط من القصور، تجعلهم عاجزين عن الضغط وتحفيز الدور الأمريكي. قيادات أضحت تقليدية تفتقر للقدرات الكافية وتترأس مؤسسات لم تعد مواكبة، ومجال وطني منقسم بين إسلاميين وقوميين تحول من 2007 إلى انقسام جغرافي مؤطر مؤسسيا وعسكريا، وجماهير أضحت غير قابلة للتعبئة بعد فقدانها لثقتها في القيادات، ومترددة في الاندماج الواسع في النضال المدني بعد أن دفعت ثمنا باهظا في الانتفاضة الثانية.