أفكار وآراء

استطلاعات الرأي .. تصويب لمسار قرارات التنمية

29 نوفمبر 2020
29 نوفمبر 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

تذهب استطلاعات الرأي إلى جس نبض آراء قطاع عريض من السكان لاتخاذ قرارات مصيرية، أو قرارات تنموية في مجالات الاقتصاد، والاجتماع، والثقافة، والسياسة، حيث إن هذا القطاع العريض من المواطنين يساهم كل بمعرفته بهذا القطاع أو ذاك، وجس النبض هذا ليس مقصودا بذاته، بقدر ما هو إجراء محوري يهدف إلى مزيد من المعرفة عن القضية موضع النقاش، وإلى استجلاب الكثير من الآراء المتعلقة بذات الموضوع، واستجلاء الرؤية نحو مزيد من الرؤى والمعرفة، للوقوف على أرضية صلبة في اتخاذ قرار ما، وحتى لا يتجاوز هذا القطاع العريض من الجمهور، وتغييبه عن حاضنته التنموية للمساهمة فيها مساهمة فعالة، تصل ببرامج التنمية إلى الغايات المنشودة.

تطرح استطلاعات الرأي العام خيارات عديدة أمام صانع القرار، وتعفيه من مشقة البحث عن حلول «ممولة» أو مكتبية قد لا تلقى القبول لدى قطاع عريض معني بالخدمة التي تقدمها المؤسسة، أو المؤسسات في حالة أن هذه الخدمة هي توجه حكومي تشمل عموم سكان الدولة، فغاية كل خدمة من الخدمات المقدمة إلى الجمهور هو تذليل الكثير من الصعاب، وتقديم خدمات ذات كفاءات عالية للأداء، وتبسيط الإجراءات للحصول عليها أيضا، وبالتالي الجمهور معني بها بصورة مباشرة، لا تغليف يحول دون معرفة حقيقتها، وأثرها المرتقب عن التنفيذ، حيث تعمل استطلاعات الرأي على تفنيد المعلومة، وانتزاعها من تموضعها الخاص، للوصول إلى تكامل المعرفة بين الجمهور والسلطات العامة، كل في مجال اختصاصه، ومن هنا تبدأ أهمية وجود استطلاعات الرأي، ودورها المحوري في تضخيم العائد المعرفي أمام صاحب القرار، قبل اتخاذ الخطوة الأولى نحو تنفيذه على أرض الواقع، فـ «الرأي القبلي» أي ما قبل إجراء استطلاعات الرأي العام؛ يشكل رأيا فرديا، حتى وإن تكاتفت القوى المعرفية لدى المؤسسة، ذلك أن الرأي العام يبقى رأيا شموليا بمكونات أفراده المعرفية، وخبرة الحياة، ومجموعة التجارب التي مر بها كل فرد من هذا الجمهور العريض، ومن هنا تستلزم الحاجة إلى الذهاب إلى هذا الرأي العام الواسع لمعرفة مظانه المعرفية المختلفة والمتنوعة، وهو ما تظهر نتائجه لما بعد الاستطلاع.

تنعت استطلاعات الرأي بأنها «السلطة غير المنظورة»، وتصنف على أنها سلطة خامسة، وهي بذلك أيضا تحتل أهمية كبيرة، وتشهد هذه الأهمية نموا غير منكور مع مرور كل فترة زمنية، وهي بذلك تعمل على إقصاء الرأي الفردي، وتعمل على خلخلة القرارات الارتجالية مع مرور الوقت، وذلك فاستطلاعات الرأي تبقى حالة ديناميكية متطورة، وقابلة للمراجعة بما تتطلبه المرحلة التنموية؛ على وجه الخصوص؛ ولأنها (سلطة غير منظورة) حسب الوصف العلمي لها؛ يظل حالها كحال سلطة الصحافة، والتي يطلق عليها السلطة الرابعة.

وما تقدم هو الذي يجيب على التساؤل المطروح عن مستوى الوعي الإداري الذي يلعب دورا محوريا في اعتماد استطلاعات الرأي العام كمنهج أصيل في طرح قضايا وإشكاليات البيئة الإدارية، وهو ذات الفهم الذي يذهب إلى تخوف بعض المسؤولين من السلطة غير المنظورة لاستطلاعات الرأي العام، وهل ذلك؛ كما هو الاعتقاد؛ أنه سوف يزاحم السلطة الحقيقية، أو يقاضيها في مواقف أخرى؟

قد تقع استطلاعات الرأي بين مأزقي الكمي والكيفي، وذلك في حالة اختيار العينيات العشوائية لمجموعة المستطلعين من الجمهور العريض، وهذا لا يؤثر على أهميتها كوسيلة علمية «حيادية» في الإجماع على الرأي الصائب، حيال القضية موضع النقاش، والعائد الكمي من المعرفة أو الرؤى، لا يؤثر إطلاقا على المستوى الكيفي أو النوعي في شأن رفد المعرفة المطلوبة للوقوف على حيثيات القضية موضع النقاش، بل بالعكس يمثل الكمي قوة هائلة، بما ترفده من آراء، ومعلومات ربما تفتح آفاقا واسعة للوصول إلى نتائج أفضل عما هو متوقع قبل طرح القضية على جمهورها العام، والمجتمع أو الجمهور يضم عينات كثيرة العدد، ونوعية الفكر، وشمولية المعرفة المتخصصة، وخبرة الحياة العامة، ومن هذه الفسيفساء الواسعة يمكن استخلاص الكثير من الآراء المتعلقة بقضية ما من قضايا الحياة، وإيجاد الحلول المقترحة لها، وهي القابلة للدراسة والتمحيص، والتمكن والتبصر، وعلى أثرها لن يكون الرأي المتخذ حيادي الطرح أو الرؤية، حيث «لا تجتمع الأمة على ضلالة».

مجموعة السيناريوهات التي توفرها استطلاعات الرأي، من شأنها أن تبسط لمتخذ القرار الخيارات العديدة للوصول إلى القرار الأصوب، دون أن يواجه أية ضغوطات جانبية «مصلحية» من شأنه أن تعمل على تحييد القرارات السليمة، واستبدالها بقرارات ذات مصالح خاصة، والسيناريوهات هنا تبقى تفويضا مباشرا، يتيح لصاحب القرار انتقاء الأصوب، والأقرب، والأكثر ديمومة، وغير المكلف ماديا، أو قوى عاملة إضافية، وبالتالي تمثل السيناريوهات المطروحة ملاذات مهمة، عندما يستعصي الرأي على صاحبه فيوقفه عند أمرين أحلاهما مر، وذلك هو شأن استطلاعات الرأي في مظانها المختلفة، ومن هنا يأتي على ضرورة العض عليها بالنواجذ للخروج من النفق المظلم.

لكي أعطيك استطلاع رأي موضوعيا حقيقيا، أعطني مجتمعا موضوعيا واعيا، يرى في الرأي الآخر الحكمة والصواب والنصيحة، والمشورة الصادقة الأمينة، فالعلاقة جد تكاملية ومتداخلة إلى حد بعيد، وكلاهما يؤثر في الآخر، فإذا اقتضى الأمر أن يكون هناك قرار غير مبني على رؤية مجتمع، فنتائجه؛ بلا جدال؛ ستكون صادمة ؛ إن لم تكن كارثية؛ ولن تلقى ذلك القبول كما هو يتوقع، حيث تمثل الرؤية المشتركة مساحة آمنة للتفاعل، والبناء، ولذلك يأتي رقي المجتمعات بما تقره على أنفسها من التزامات، وما تحمله نفسها من أعباء؛ هي جديرة بحمل رسالتها؛ مهما كلفها ذلك من جهد، فذلك يظل قرارها، وهي المسؤولة عنه.

هل تعبر استطلاعات الرأي في أي نظام سياسي على مدى حداثيته، وحيويته، وقدرته على استيعاب مختلف الآراء المطروحة لأي موضوع من موضوعات التنمية المختلفة؟ يقينا؛ ذلك ما هو مأمول ومتوقع، فالرؤى الاستشرافية للغد المنظور تحتاج إلى كثير من التشاركية المجتمعية، وإلى كثير من توحيد الرؤى، وإلى كثير من المؤازرة، والتعاون والتعاضد، والأوطان في مناخاتها المختلفة تحتاج إلى كثير من البناءات الفكرية، وهذه البناءات تحتاج إلى من يستنطقها، ويعلي من أهميتها، ومتى شعرت بذلك ستقبل، وبكل سرور، على المساهمة البناءة، والعطاء اللامحدود.

يمكن الإشارة في ختام هذه المناقشة إلى علاقات التماس بين استطلاعات الرأي والرسالة الإعلامية في خدمة جهود التنمية، وهي علاقة على قدر كبير من الأهمية، فكلا الوسيلتين تذهبان إلى استنطاق رأي هذا الجمهور، وإن اختلفت المناهج عند كل وسيلة، وذلك للإيمان بأهمية الدور الذي يلعبه الرأي العام في تجسير المسافة بين واقع تأثيرات برامج التنمية، وبين ما تذهب إليه الخطط، والأفكار والرؤى لدى صانع القرار، والمسافة الفاصلة بين الطرفين لن تتجسر إلا بإحدى هاتين الوسيلتين، أو كلاهما مجتمعتين في معالجة موضوع ما من موضوعات التنمية، وهذا ما تذهب إليه المدرسة الإدارية الحديثة، والتي تعمل؛ قدر الإمكان؛ على تجفيف منابع المسؤول الـ «سوبر» والرأي «الفردي الأوحد» خاصة اليوم في ظل تنامي قوة وسائل التواصل الاجتماعي التي تتقصى كل صغيرة وكبيرة، وتواجه صاحب القرار بالكثير من الحقائق بصورة مباشرة، وبلا تكلف، فقد أصبح الجميع مستطلعي رأي، كما أصبح الجميع صحفيين، وإعلاميين، حيث يملكون أدوات كلا الوسيلتين، وإن لم يملكا ميثاق الشرف لكليهما.