أفكار وآراء

دوافع السلطة الفلسطينية لاستئناف التنسيق مع إسرائيل

28 نوفمبر 2020
28 نوفمبر 2020

د. عبدالعاطي محمد -

بعد 6 أشهر من الانقطاع قررت السلطة الفلسطينية استئناف التنسيق الأمني مع إسرائيل. وقد بدا القرار مفاجئا ولا يتسق مع مواقف السلطة المتشددة تجاه ما يعرف بصفقة القرن أو إقامة علاقات بين إسرائيل وعدة دول عربية في الأشهر الأخيرة، مما أثار التساؤل حول الدوافع التي حدت بالسلطة لتغيير موقفها، وعما إذا كان هذا التحول مقدمة لتطورات لاحقة تتعلق بإمكانية مفاوضات السلام المتجمدة منذ سنوات ووضع نهاية لهذا الجمود وتفعيل حل الدولتين، أم أنه موقف طارئ قد يتغير بين لحظة وأخرى.

قبل هذا القرار مباشرة وفى وقت قصير، كانت التطورات على الصعيد الفلسطيني تمضي في اتجاه معاكس تماما، حتى بدا لكثير من المحللين أن السلطة الفلسطينية قد غيرت استراتيجيتها المعتادة منذ اتفاقات أوسلو 1993 التي أسست لمبدأ المفاوضات المباشرة مع سلطة الاحتلال بدلا من المقاومة بدءا من الانتفاضات ووصولا إلى العمل المسلح. ومن تابع تصريحات كبار المسؤولين الفلسطينيين سواء في الضفة أو في القطاع لمس فيها مؤشرات على هذا التحول. وجاءت اللقاءات بين فتح وحماس سواء في بيروت أو أنقرة تحمل هذا الطابع خصوصا أن بقية الفصائل الفلسطينية شاركت بشكل أو بآخر في هذه اللقاءات. والملفت أن قرار استئناف التنسيق الأمني صدر بينما كان وفدا فتح وحماس يواصلان هذه المرة اجتماعاتهما في القاهرة لاستكمال ما تم في بيروت وأنقرة، لتحقيق المصالحة والاتفاق على استراتيجية جديدة للمقاومة ترضى عنها كل الفصائل!. وردت حماس سريعا برفض هذا القرار ومطالبة السلطة بالعدول عنه، وألقى هذا بظلاله على واقع مفاوضات المصالحة التي باتت وكأنها عادت إلى المربع الأول!.

والمعروف أن العلاقات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل قد تدهورت إلى حد القطيعة أو الجمود منذ عام 2014 إثر فشل جولات المفاوضات بخصوص حل الدولتين أواخر عهد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، ثم اكتست بالطابع العدائي إعلاميا وسياسيا مع تولى إدارة دونالد ترامب الحكم وإعلان ما سمى بصفقة القرن. وخلال فترة رئاسته تم نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في اعتراف صريح بالقدس عاصمة لإسرائيل على عكس ما هو وارد في القرارات الدولية ذات الصلة ومسار مفاوضات السلام منذ مؤتمر مدريد 1991. وفي مايو 2020 أعلنت حكومة نتانياهو اعتزامها ضم أراض جديدة من الضفة بموافقة وتأييد من إدارة ترامب، فما كان من السلطة إلا إعلانها بالمقابل وقف أي اتصالات مع إسرائيل والانسحاب من الاتفاقيات والتفاهمات الموقعة معها ومع الإدارة الأمريكية. وآنذاك قيل أن التنسيق الأمني كان مستثنيا من عملية وقف الاتفاقات، ولكن اتضح فيما بعد أنه توقف أيضا. وقد ازداد الموقف الفلسطيني تشددا في أعقاب إقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل ودول عربية أخرى بجانب ما هو قائم بينها وبين كل من مصر والأردن.

وفى ضوء ذلك بدا أن السلطة الفلسطينية قد قررت الخروج تماما عن سياق الوقوف في خندق الموقف العربي العام والبحث عن مسار معاكس. وكان مشهد المعارضة الذي اتخذه الوفد الفلسطيني في الاجتماع العربي الوزاري الاعتيادي بالجامعة العربية، والذي انتهى بالفشل، دليلا على تغير ما قد أصاب الاستراتيجية الفلسطينية تجاه عملية السلام، إلى أن مرت الأيام سريعا وعلى نحو قصير لم يتعد الأشهر الستة حتى عادت السلطة الفلسطينية إلى ما كانت عليه مع إسرائيل قبل مايو 2020.

في تفسير الدوافع وراء التحول في المشهد الفلسطيني، هناك عوامل داخلية وأخرى خارجية.

فمن حيث العوامل الداخلية وضعت جائحة كورونا السلطة في الضفة في موقف بالغ الصعوبة في ضوء التزايد الكبير المطرد في الإصابات والعجز المالي عن توفير الإمكانيات الفنية لوقف نزيف الإصابات. وكانت السلطة قد رفضت تسلم قيمة الضرائب التي تجلبها إسرائيل لصالحها، تطبيقا لقرار وقف الاتفاقات. وتسبب ذلك في إحداث أزمة مالية للسلطة جعلتها ليست عاجزة عن مواجهة الكورونا ولكن الأخطر عدم القدرة على دفع كامل الرواتب للموظفين (دفع نصف شهر فقط). وفى القطاع كانت الصورة أكثر سوءا بالنظر إلى الأعداد الكبيرة في الإصابات بالكورونا وضعف المساعدات المالية الخارجية (إسرائيل تتحكم في دخولها إلى القطاع وتتعمد إعاقتها) وغياب الدعم من جانب السلطة بالأساس منذ عام 2007 بسبب انعدام المصالحة. وبناء على ذلك فإن قرار العودة للتنسيق مع إسرائيل يعود للضائقة المالية التي أوجدت السلطة نفسها فيها بقرار وقف التنسيق، أي أن العودة للتنسيق تسمح باستعادة السلطة لأموال الضرائب، وتفتح الأبواب الإسرائيلية لتوصيل المساعدات المالية إلى حماس التي تدير القطاع. ومن جهة أخرى فإنه اتساقا مع الموقف المتشدد الذي اتخذته السلطة كان من المتوقع أن تحدث احتجاجات شعبية فلسطينية في الضفة حتى ولو لا تصل إلى حد الانتفاضة، ولكن شيئا من هذا لم يحدث لأن السلطة في حقيقة الأمر لم ترد الخروج عن استراتيجيتها التفاوضية المعتادة. والدليل من إسرائيل ليكون أكثر إقناعا. فقد صرح بينى جانيتس رئيس الوزراء الإسرائيلي المناوب في منتصف سبتمبر، أي قبل قرار استئناف التنسيق بشهرين، بأن مصلحة إسرائيل تتمثل في تعزيز الاستقرار واستئناف المفاوضات مع عباس، وأضاف «برغم أن جهاز الأمن يرى زيادة الإحباط الفلسطيني، إلا أنه لا يرى تصعيدا، وإن كان لا يزال مستحيلا استبعاد إمكانية التصعيد.. مصلحتنا هي تحقيق الاستقرار، لذلك من المهم تجديد الحوار مع أبو مازن، مع الحفاظ على التهدئة في غزة (الاتفاقيات بين حماس وإسرائيل). والمعنى من استعراض القراءتين الفلسطينية والإسرائيلية على هذا النحو تؤكد أن القلق من الإحباط الاجتماعي الفلسطيني وراء العودة للتنسيق بين الجانبين.

فالأزمة المالية نتيجة وقف التنسيق تؤدى إلى زيادة الاحتقان الاجتماعي الفلسطيني ومن ثم حدوث عدم استقرار سياسي، وبالنسبة لإسرائيل فإن هذه الحالة تسبب لها توترا أمنيا لا تقوى على صد تبعاته.

وأما بخصوص العوامل الخارجية، فإن أحدا لم يلتفت لمغزى الاتصالات التي أجرتها السلطة منذ قرار وقف الاتفاقات مع أصدقائها من دول العالم، حيث كانت في اتجاه يختلف عما ساد من اعتقاد وانطباعات كما سيتضح من تصريحات مسؤولين فلسطينيين، وذلك في سطور تالية. وفى إطار التقصي عن الاتصالات الخارجية، يمكن الإشارة إلى تأثير الموقف الفرنسي، حيث شددت باريس في اتصال بين الرئيس الفرنسي ماكرون والرئيس الفلسطيني عباس على ضرورة استئناف المفاوضات بين السلطة وإسرائيل وقالت: إن هذا يبقى أولوية بهدف التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، كما أكد ماكرون على أنه عازم على العمل من أجل السلام في الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى كان لافتا سرعة رد الفعل من جانب السلطة على نتائج الانتخابات الأمريكية، حيث رحبت بتغير الإدارة الأمريكية والمؤشرات على وصول جو بايدن (الحزب الديمقراطي) إلى البيت الأبيض. وقال عباس إنه يتطلع إلى العمل مع فريق بايدن لتحسين العلاقات الأمريكية الفلسطينية وضمان العدالة والكرامة للفلسطينيين. وليس من المعقول أن تتحسن العلاقة مع الولايات المتحدة بينما تبقى متدهورة مع إسرائيل، ولذلك سارعت السلطة بالعودة عن قرارها بوقف الاتفاقات.

إن القلق من أوضاع اجتماعية متدهورة على الصعيد الفلسطيني نتيجة للاستمرار على وقف التعاون (التنسيق لا يشمل المسائل المالية فقط بل الأمنية والسياسية) سواء من الجانب الفلسطيني أو الإسرائيلي، ومراهنة الطرفين على إقامة علاقات طيبة مع إدارة أمريكية جديدة بقيادة الديمقراطيين وتخالف توجهات إدارة ترامب، هما الدافعين الرئيسيين وراء التغير في الموقف من تجميد العلاقة إلى استئنافها.

وقد أوضح مسؤولون فلسطينيون أن العودة للتنسيق جاءت نتيجة إعلان إسرائيل استعدادها الالتزام بالاتفاقيات الموقعة سابقا، وبأن الإعلان صدر رسميا وأبلغت به السلطة فعلا برسائل رسمية، وجاء نتيجة اتصالات أجراها الرئيس الفلسطيني على الصعيد الدولي. كما أوضحت السلطة أن هذا ما كانت تريده فعلا من قرارها بوقف التنسيق قبل ستة أشهر، أي إجبار إسرائيل على إعلان التزامها بالاتفاقيات السابقة. وقال رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتيه: «إن السلطة اقترحت العودة إلى المفاوضات في إطار اللجنة الرباعية (تتشكل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا)، أو استئناف المباحثات التي توقفت منذ 2014، أو استئناف إسرائيل الالتزام بالاتفاقيات الموقعة، وقد قررت إسرائيل الالتزام بالخيار الثالث».

ويعد هذا الخيار الثالث أقل أهمية إذا ما تم وضعه في إطار الثقل الكبير الذي كان يمثله وقف العمل بالاتفاقيات، فقد صدر الوقف آنذاك في ظل تطور بالغ الخطورة على الوضع الفلسطيني هو إصرار إسرائيل وقتها على ضم المزيد من أراضى الضفة، ولنا أن نتذكر سخونة التصريحات والمواقف التي وردت من جانب المسؤولين الفلسطينيين ردا على نيات الضم من ناحية وتعطيل عملية السلام من ناحية أخرى. وكان من الأفضل من حيث المصالح الفلسطينية أن تختار إسرائيل الخيار الأول أي العودة للتفاوض من خلال اللجنة الرباعية، خصوصا أن الرئيس الفلسطيني شدد في الأسابيع الأخيرة على أهمية هذا المسار وسعي السلطة إلى اعتماده طريقا بديلا لمسار المفاوضات الثنائية المباشرة.