Untitled-1
Untitled-1
الثقافة

مرفأ قراءة.. «الغليان».. البحث عن الإنسان في مجتمع مأزوم

28 نوفمبر 2020
28 نوفمبر 2020

إيهاب الملاح -

  • 1 -

    منذ 20 عاما بالتمام والكمال، صدرت الترجمة العربية لرواية «الغليان» للكاتبة المكسيكية الرائعة لاورا إيسكيبيل؛ بتوقيع الأستاذة المترجمة د. نادية جمال الدين (لم أقرأ لها ترجمات أخرى رغم أن ترجمتها هذه من أجمل ما قرأت)، عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر، ضمن إصدارات (المشروع القومي للترجمة) الذي تحول إلى مؤسسة مستقلة عملاقة؛ هي المركز القومي للترجمة أحد مفاخر الثقافة المصرية رغم كل المشكلات والأزمات التي تعانيها هذه الثقافة ككل في السنوات الأخيرة.

    أذكر أن أول مناوشة نقدية لي عن رواية مترجمة، كانت عن «الغليان»، وكانت بسبب إعجابي الشديد بالرواية وصاحبتها ومترجمتها على السواء، كانت المرة الأولى التي أخرج فيها عن قراءة المألوف من الترجمات عن الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية المشهورة، وأتعرف على الروائية المكسيكية التي لم أكن أعرف عنها الكثير إلا بفضل هذه الرواية، وأظن أن صدور هذه الترجمة كان سببًا في انتشار وذيوع اسم الروائية المكسيكية في العالم العربي، ولاحقًا جرى ترجمة نفس الرواية لها بتوقيع مترجم آخر هو المرحوم صالح علماني وصدرت بعنوان «كالماء للشكولاته» التي صدرت عن دار بلومزبري الدوحة منذ سنوات. وكان السؤال منطقيا توجهت به لمترجمة الرواية في نسختها العربية الأولى: لماذا «الغليان» وليس كالماء للشيكولاته؟ فأجابتني المترجمة القديرة:

    «أحب أن أشير إلى أن رواية «الغليان» هي ذاتها «كالماء للشوكلاته» ولكنني كمتخصصة في الأدب الإسبانوأمريكي، أدركت أهمية تطويع العنوان بحيث يحقق التواصل بين الكاتبة والتلقي من خلال العنوان؛ المدخل الأول والعتبة الأولى لأي عمل أدبي.. فالتعبير الإسباني «كالماء للشوكلاتة» أصله «مثل ماء صنع الشوكولاتة» والذي نصف به شخصًا شديد الغضب الداخلي إلى درجة الغليان من كتمان هذا الغضب.. أي أن معنى التعبير مجازيا هو «الغليان»..

    وتشرح المترجمة المعنى الاصطلاحي بإحالته الثقافية الشعبية؛ بقولها يأتي تعبير «مثل ماء صنع الشوكولاتة» من عادة صنع الشوكولاتة في المكسيك، والتي تتم بتسخين الماء الذي سيتم خلطه بمسحوق الشوكولاتة حتى درجة الغليان المكثف لنحصل على مشروب الشوكولاتة المضبوط.. ولما كانت ثقافة شرب الشوكولاتة أو تناولها في أيام الآحاد بأغلب دول إسبانوأمريكا وأمريكا وأوروبا أمرًا معروفا لهم، ومجهولا لنا في ثقافتنا وعاداتنا، قمت بتطويع العنوان والاستعانة بخلاصة معنى التعبير بما يتفق وثقافتنا وهو «الغليان» والذي يعبر بقوة عن الحالة التي تمر بها البطلة كما ذكرت في مقدمتكم..

  • 2 -

    أذكر أنني انكببتُ على الرواية التي كانت ترجمتها البديعة السلسة الممتعة سببًا في إنهائي لها في أقل من ليلتين؛ وكنت أتساءل طوال القراءة:

    كيف يمكن أن يصير تناولنا الطعام وإحساسنا به وتذوقنا له وسيلة مقاومة ورفض لواقع كريه منفر يجب التمرد عليه وتغييره جذريا؟ وكيف يمكن لوصفات طعام يتم إبداعها بطرق معينة ومقادير مخصوصة أن تكون معادلا وموازيا لحالات شعورية وعاطفية غاضبة وثائرة وعنيفة؛ مشاعر أفرزتها أوضاع وتقاليد بالية وأعراف سقيمة تسحق أصحابها دون رحمة؟

    كانت الرواية بديعة، وسردها متدفق كالنهر الجاري، فلا نتوءات حادة أو غليظة تعوق القراءة أو تخرجك عن الجو العام الذي يحيطك به السرد المشبع بأجواء الثقافة المكسيكية المحلية التي تكاد تتشابه بالمناسبة مع بعض البيئات المحلية المعزولة في العالم العربي ريفاً وصحراء

    رواية جديدة في شكلها الجمالي ومعالجتها الإنسانية الرهيفة، تروي أحاسيس دفينة لظلمٍ وقع على شابة خضوعًا لتقاليد مجتمع متخلف مسجون في أصفاد وأغلال تقاليد بالية وموروثات تعوق هذا المجتمع عن النهوض والتحرر ومواجهة العالم الخارجي والتفاعل معه بندية وثقة.

    أجابتني «الغليان» عن هذه الأسئلة وغيرها إجابات استثنائية، غير تقليدية ولا نمطية، بل إجابات إنسانية وعاطفية رقيقة تثير بدورها من الأسئلة والتأملات أضعاف ما طرحناه في البداية...

    يقوم الهيكل الخارجي للرواية على اثنتي عشرة وصفة طعام، موزعة على الإثني عشر شهرا للسنة الميلادية بدءًا من يناير وانتهاء بديسمبر، وكل شهر منها يختص بوصفة معينة من وصفات الطعام التي ترتبط ارتباطا وثيقا بأحداث ووقائع وذكريات ومشاعر البطلة «تيتا»..

    ومع السرد المتتابع الجميل لأحداث الرواية، نكتشف أن الطهي وتأثيراته الحسية هو العنصر المهيمن على أحداث الرواية؛

  • 3 -

    حبكة الرواية منسوجة حول هذه المجموعة من الوصفات التي تعدّها البطلة، وتصاحبنا من خلال أحداثها مشاعر الغضب الجارف التي تسيطر عليها، ورغبة جنسية محمومة ومكبوتة لا تجد لها متنفسا إلا الطهي.. حول الحب والعبودية للتقاليد التي تتحكم في حياة الأفراد تدور الأحداث، من خلال الشخصية المحورية «تيتا»، وهي الابنة الصغرى لعائلة مكسيكية، تقع تيتا في غرام بيدرو، لكن التقاليد والأعراف المحلية القاهرة في المكسيك تجبرها على البقاء دون زواج حتى موت والدتها؛ لأنها مكلفة بالعناية بها لأنها الابنة الصغرى، فيما يتزوج بيدرو من أختها الكبرى، ويعيشان معها وأمامها وتحت ناظريها في بيت واحد!!

    تحت وطأة هذه الظروف القاسية الكابتة لإنسانيتها، تهرب «تيتا» من قهرها الداخلي والخارجي على السواء إلى المطبخ الذي يمثل بالنسبة لها أهم جزء في المنزل. إنه مصدر المعرفة، وُجود هذه الفكرة في ذاتها يضفي سعادة كبيرة جدا عليها.

    ومع السرد المتتابع الجميل لأحداث الرواية، نكتشف أن الطهي وتأثيراته الحسية هو العنصر المهيمن على أحداث الرواية؛ فاللذة الناتجة عن مذاق هذه الأطعمة هي المحور الأساس الذي ينبني عليه شكل الرواية، وتبدو عاطفة الحب حاضرة بقوة في (الغليان) باعتبارها معادلا للوجود الإنساني والقدر. ستتحول كل مشاعر القهر والغضب والثورة والرغبات المقموعة إلى وصفات طعام سحرية، تزيل الحواجز والعوائق والممنوعات بين الواقع المتعين وبين ما يطمح إليه كل فرد من أفراد هذا المجتمع من حرية وانعتاق وخروج من أسر هذه التقاليد والقيود البالية..

    وتتراوح هذه الوصفات بالتصاعد تدريجيا لكي تبدأ من مجرد الإفصاح والكشف عن ملامح الأزمة التي تعيشها «تيتا» حتى تصل إلى التمرد الجامح والثورة الكاملة التي تؤدي بصاحبتها إلى مصير مؤلم..

  • 4 -

    وبمتابعة الأحداث التي ننشد إليها انشدادا، يتضح شيئا فشيئا أن «تيتا» ما هي إلا رمز للمجتمع المكسيكي الجديد الآخذ في التشكل والتحول تحت ضغط وهيمنة القوى القامعة والمسيطرة الراغبة في بقاء هذا المجتمع على ما هو عليه، يرزح تحت وطأة التخلف والجمود وتحجر الأوضاع بما يحقق مصالحها ونزوعها الاستبدادي.. إلا أن قوى الرفض الداخلية في المجتمع تحاول التحرر والانعتاق من أسر هذه الهيمنة، مما ينذر بحدوث «الغليان» والفوران المنتهيين بالضرورة إلى الثورة؛ الثورة على التقاليد والقيود والهيمنة والاستبداد.

    لقد استطاعت الكاتبة ببراعة أن تقيم تماثلا، وموازاة رمزية بين رغباتها الممنوعة والمقيدة عن الخروج وبين وصفات الطعام المختلفة التي تماثل كل منها حالة من حالاتها الشعورية المؤدية إلى الغليان.. كما نجحت الكاتبة باقتدار في أن تطعم فصول الرواية ببعض النصائح والوصفات الخاصة بأسرار الطهي وفن إعداد المائدة وغيرها من الأفكار والطقوس التي تباعدت كثيراً عن اهتمامات ومخيّلات الكثيرين والكثيرات من أبناء هذا الزمان المزدحم دائما بما هو أهم.