أفكار وآراء

الدولة المدنية بين الديني والسياسي

25 نوفمبر 2020
25 نوفمبر 2020

عبدالله العليان -

لا يزال الحديث والنقاش مستمرا حول الدولة المدنية في عصرنا الراهن، وعن الفصل والوصل بين الديني والسياسي والمقاربة بينهما من حيث الأفكار والدلالات والمنطلقات، والحقيقة بروز مصطلح الدولة المدنية في الفلسفية الغربية قبل عصر النهضة الصناعية، جاء بعد إقصاء الكنيسة الغربية، لخروجها عن اختصاصاتها الدينية المحضة.

، وتدخلها في العلم والاختراع والسياسة، إلى حد قتل بعض العلماء المخترعين، بسبب مخالفتهم لبعض الأقوال الكنسية حول دوران الأرض وغيرها من الآراء العلمية والنظرية، لا ولا شك أن تدخلات الكنيسة في مجال العلم والاختراع، يخالف ما هو مجال الرؤية الدينية الخالصة، فالديانة المسيحية، ديانة روحية، تختلف عن بعض الديانات التوحيدية كشريعة دينية، ولذلك فهي افتراضًا لا تتدخل في المجال الدنيوي السياسي أو المدني عمومًا، وهذا ما ظهر في القول الشهير، الذي قاله أحد القساوسة الكبار في العصر الأول المسيحي: «دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر».

وبعد إقصاء الكنيسة وتحجيم الدور الذي كانت تلعبه في الإمبراطورية الرومانية، من خلال الاقتصاد والسياسة والثقافة، وغيرها من مفاصل الدولة، واشترعت لنفسها ما سمي بـ(الحكم الإلهي)، ويعني أن الملوك تستمد شرعيتهم من الله عز وجل، وهذا ما جعل بعض الفلاسفة وبعض العلماء والرهبان، يطالبون بحركة الإصلاح الديني في الديانة المسيحية، الذي تزعمه الراهب مارتن لوثر كنج، ونتج عن هذه الحركة الإصلاحية، (المذهب البروتستانتي)، وهو ما سبق حركة التنوير التي انبثقت عن الحداثة الأوروبية، التي قوضت سلطة الكنسية مع ظهور النهضة العلمية الصناعية وما تبعها من تحولات وتغيرات فلسفية وفكرية كبيرة، وجاءت الأفكار الحديثة التي بثتها الثورات في الغرب، خاصة الثورة الفرنسية على النظام القديم، وبرزت عنها مقولات الحرية، والإخاء، ثم برزت الفلسفات الأخرى مثل: الليبرالية، والاشتراكية، ومدارس فلسفية أخرى مثل الفلسفة الماركسية، وسبقها في التوجه الجديد في تأسيس نموذج للاستقرار السياسي والفلسفي، ما وضعه الفيلسوف جان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي)، الذي أسس ما عرف بـالحق الطبيعي في الحرية والالتزام بالقانون، واتفاق الناس على التعاقد السلمي للاجتماع السياسي، وهو ما ظهر في التداول السلمي للسلطة ببروز الأنظمة الديمقراطية وغيرها من الحقوق الواردة في هذا العقد الشهير.

لكن حركة الإصلاح الديني التي انطلقت في الغرب، للخروج من سيطرة الكنيسة وهيمنتها والحكم الثيوقراطي إلخ، استفادت من الرؤية الإسلامية بحسب الدكتور محمد عابد الجابري، في مسألة عدم وجود الكهانة في النظرة الدينية الإسلامية، كما هو موجود التي أدخلت على ديانتها، ربما يخالف الكثير من التوقعات عن عصر الأنوار، والثورة الفكرية التي تم طرحها بعد إقصاء الكنيسة في الغرب، والأثر الذي أحدثه، بعد ترجمة القرآن الكريم في أوروبا فيقول في كتابه (في نقد الحاجة إلى الإصلاح): «كان الغرض الأصلي من ترجمة القرآن هو مقاومة الإسلام (:)، وفي هذا الغرض استعملها رجال الدين المسيحي، وقد شكّل ذلك نوعًا من المرجعية للمستشرقين المعروفين بالطعن في الإسلام وإعلان العداء له. غير أن عبارة هيجل «مكر التاريخ» تأبى إلا أن تحقق نفسها في هذا المجال أيضًا. ذلك أن هذه الترجمات التي نقلت معاني القرآن إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية الإقليمية قد وظفت أيضًا ضد رجال الدين المندمجين في نظام الكهنوت فأصبحت عنصرًا أساسيًا في الصراع ضد الكنيسة. وهكذا سارع «الإنسانيون»، وهم فئة ناشئة من المثقفين في القرن الرابع عشر كانوا يفكرون ويعملون خارج نظام الكنيسة وضدها - سارعوا إلى توظيف ترجمات القرآن للاستعانة بها في تعزيز موقفهم ونشر ثقافة جديدة تعتبر الإنسان غاية في حد ذاته وتعلي من شأنه كفرد حر لا يحتاج في تعامله الديني، عقيدةً وسلوكًا، إلى وسيط آخر (الكنيسة)». ص ( 63).

وهذا يعني كما يرى د. محمد عابد الجابري، أن بعض المفكرين الغربيين الذين بدؤوا يتحررون من بعض أراء الكنيسة ورؤيتها في الحق الإلهي، واسترعاء انتباههم للنزعة الإنسانية في الإسلام، خاصة بعد ترجمة القرآن الكريم للغة اللاتينية، وكذلك اطلاعهم على آراء العلامة ابن خلدون، وغيرهم من العلماء المسلمين الذين ترجمة أفكارهم بعد الغزوات الصليبية، ومن هنا يرى د. محمد عابد الجابري: «واصل رجال النزعة الإنسانية في القرون التالية - أمثال لوكونت دي بولا نفيي. الذي ألف كتاب «حياة محمد» (1730)- امتداح الإسلام ضدًا على الكاثوليكية الرسمية، منوهين بالإسلام وموقفه من الإنسان. كما تواصل الاهتمام بالقرآن وترجمته، فظهرت سنة 1734 ترجمة جديدة له في لندن قام بهاG. Sale، فانتشرت بسرعة في عدة بلدان أوروبية، خصوصا وقد كانت مصحوبة بمدخل حول العرب وتاريخهم الشيء الذي اهتم به الجمهور اهتمامًا كبيرًا كما اهتم بها رجال «الأنوار- أمثال فولتير، فكانت مصدرًا لمعرفتهم بالإسلام». ص(64).

وهذه الرؤية من د. الجابري، تؤكد أن حركة الإصلاح الديني، أخذت من الفكرة المدنية للفكر الإسلامي، البعيد الكهانة وعن الحكم الإلهي، الذي رسمته الكنيسة الغربية، وهذه توضح إسقاطات بعض المستشرقين، ومن تبعهم من الباحثين والكتاب العرب والمسلمين، في مسألة الثيوقراطية، ومقاربة هذا هذه النظرة مع الأسس الفكرية للإسلام، في الكهانة التي جعلتها الكنيسة نظامًا سياسيًا في الإمبراطورية الرومانية.

من هذه المنطلقات التي نناقش أبعادها الفكرية، أن رؤية الإسلام للدولة أنها دولة مدنية بكل المعايير، وقد كتبت في هذه المسألة قبل سنوات، وكانت ردًا على الأكاديمي د. السيد ولد أباه، وقلت في هذا الأمر: «الدولة في الإسلام ـ بغض النظر في المصطلحات والمسميات ـ تقوم على الاختيار والانتخاب بمقاييس ذلك العصر وليس بمقاييس عصرنا؛ لأن البعض من المستشرقين يقيس الدولة في الوقت آنذاك، بمقاييس عصرنا الراهن، وهذا قياس مع الفارق؛ لأن النظرة السياسية تقاس بعصرها، وليس بعصر آخر تبعدها عنه عشرات القرون، -فالاجتماع في السقيفة يعتبر أول اجتماع سياسي- كما يقول د.إمام عبد الفتاح إمام صاحب كتاب -الطاغية- في تاريخ الإسلام كله. وما أشبهه «بجمعية وطنية «أو تأسيسية تبحث مصير أمة لأجيال عديدة لاحقة، وتضع دستورًا يكون أساسًا لحياتها في المستقبل»، إلى أن حسم عمر بن الخطاب النقاش بحجج قوية، منها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أبا بكر أن يؤم الناس، و»أنه ثاني اثنين إذ هما في الغار»، ثم تساءل في براعة: «من منكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟، فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر !!»، فقال: ابسط يدك يا أبا بكر نبايعك. فبسط يديه فبايعه! ثم بايعه المهاجرون والأنصار تحت السقيفة فيما يسمى بالبيعة الأولى أو البيعة الخاصة أو الصغرى».

كما وصف الأستاذ ماكدونالد اجتماع السقيفة بقوله: «إن هذا الاجتماع يذكّر إلى حد بعيد بمؤتمر سياسي دارت فيه المناقشات وفق الأساليب الحديثة».

وهذا المشهد الديمقراطي بمقاييس عصرنا يدل على أن الصحابة (رضوان الله عليهم) مدركون سياسيًا لتبعات الخلافة وأهدافها، على الرغم من مقولات المستشرقين ومن تبعهم من الباحثين الذين وصفوا اجتماع سقيفة بني ساعدة بأنه صراع القبلية على الخلافة».

كما أن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، أقام الدولة في المدينة، كدولة مدنية، فيها الأمة، الأرض ـ القانون (التشريع)، ومن هذه الأسس، قامت الدولة في العصر الأول الإسلامي، ومارست كل مقومات الدولة المدنية في عصرنا الراهن، من حيث التفاوض، وإرسال الرسل للدول، وعقد المعاهدات، كما وثيقة -الصحيفة المدينة- التي أبرمها الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع غير المسلمين، تعتبر دستورًا بمقاييس هذا العصر، ويؤكد على مدنية الدولة بعيدًا عن الكهانة، والثيوقراطية الكنسية، وهذا ما أكد عليه أكاديميون ومفكرون معاصرون، ومن هؤلاء الذين ناقشوا قضية الدولة في الإسلام -وهؤلاء انتماءات الفكرية: ليبرالية وقومية ويسارية، مثل: د. رضوان السيد، ود. محمد عابد الجابري، ود. عبد الإله وغيرهم.. وللحديث بقية.