Screen Shot 2020-11-24 at 1.39.12 PM
Screen Shot 2020-11-24 at 1.39.12 PM
أعمدة

مرآة آليس (٢)

24 نوفمبر 2020
24 نوفمبر 2020

أمل السعيدية

بالنسبة ليامبو في رواية أمبريتو إيكو "الشعلة الخفية للملكة لوانا" ليست الكتبُ طريقاً لمعرفة الذات فحسب، بل هي الوسيلة الوحيدة التي بقيت له حتى يتعرف على ماضيه بعد فقدان ذاكرته. فهو لم يفقد ذاكرة الكتب التي قرأها طوال حياته بل يتذكرُ جملاً منها ويقتبسها في محادثاته مع الأشخاص الذين كانوا يشكلون عائلته وأصدقاءه لكنه نسيهم مع ما نسى. ربما لأن يامبو وكما سيصرحُ لنا في الفصول الأخيرة من الرواية، لم يكن يوماً من أيام حياته خارج الكتب. ومنذ اللحظة الأولى التي أدرك فيها إغواء الروح ذاك إنقاد إليه، مثلما تقادُ وردة عباد الشمس صوب قرص الشمس!، فعندما كان طفلاً، وعاد للمدينة بعد فترة قضاها في الريف وهي فترة الحرب العالمية الثانية، يقف أمام كتاب ثمين موصد داخل صندوق زجاجي، يتعذب يامبو لأنه لا يستطيع معرفة اللذة التي يمكن أن تكتنف رحلته مع ذلك الكتاب، فلنلاحظ معاً أنه لم يقصد قراءته بل الإطلالة الأولى لقارئ على كتاب يرغب في اقتنائه، فتلك اللحظات بالذات وعدٌ لا يمكن رده، ويظهر خللها حنينٌ متوهج لعالم موازٍ، وسائده اثيرة، ومجلسه دافئ ومسجى.

إذن الكتب التي نقرأها هي طريقنا نحو طفولتنا، مثلما هي الحاضر الذي ينقضي في لحظة القراءة الراهنة، إنها لحظة مكثفة من زمن ماضٍ وزمن حاضر وآخر سيأتي، تنفجرُ على الرغم من أننا وفي جلستنا غير الرسمية عندما نقرأ، نظنُ أننا نمارس نشاطاً قوامه التبطلُ، وأن جوهر الثورة التي يشكلها في عالمنا المعاصر، هو قدرته على أن يهدر الوقت، يُلغيه، ولكن يتبين للمتأمل، أنها لحظاتٌ من أنوية صغيرة، تنفجر، لتبرز لنا "شعلاً خفية" عما كنا عليه ذات يوم، وما سنكونه حتى نموت.

لا أعرف أين قرأتُ تلك الجملة لكاتب مغمور يقول فيها إن من حقنا أن نحلم، حتى وإن كان ما نحلم به مثالياً، ففي حقب التاريخ البشري المختلفة، تظهرُ أحلامٌ وتموت أخرى، لماذا علينا أن نكون موضوعيين وحياديين، يذكرني هذا بالطبع بلا طمأنينة بيسوا، فالنسخة الأولى التي قرأتها من الكتاب عام ٢٠١٢ كانت مختصرة، وهي عبارة عن مختارات من الكتاب، في الجملة الأولى التي مازال ظلها يحيطني بذراعيه منذ ذلك الحين، يسوق بيسوا وضعنا اذ يقول مأساتنا أننا جيل جاء بعد جيل واجه أسئلة الوجود الكبرى، بناها، ثم جاء جيل ليهدمها، وها نحن اليوم نتعامل مع أشلاء حضارة خربة ومحطمة وأسئلة مضللة أكثر من الأسئلة التي ينبغي أن نتعاضد من أجل النظر فيها. والكتب تجعلنا في بداية هذا الطريق، ليس علينا أكثر من أن نضع في صور ملفاتنا على تويتر، كتباً نحبها، أحدنا يضع مجتمع الاستعراض لجي ديبور، وآخر يختار الحرافيش لنجيب محفوظ، وساخطٌ يحمل بين يديه كتاب تشريح الملانخوليا لروبرت بيرتون، وصبي صغير يكبر على ترديد جدارية محمود درويش.

عودةً للشعلة الخفية لامبريتو ايكو والتي ترجمها عن الايطالية المترجم السوري معاوية عبد المجيد في ترجمة رائعة، يتلاحم يامبو مع الضباب، بل وإنه في أوقات كثيرة يبحث عنه، يسجل في دفتر مستقل مقاطع من كتب كثيرة عن الضباب وحده، وعلينا نحن كقراء، أن نرى كيف أن هذا الضباب الذي يكتنفه، مرآة لحقيقة العالم. جو دخاني، لا نمسكه بأيدينا اذ إنه غير ملموس ومع ذلك في قوامه البخاري أجوبة لانهائية.