أفكار وآراء

كيف يستقبل العالم العقد الثالث من الألفية الثالثة؟

21 نوفمبر 2020
21 نوفمبر 2020

د. عبدالعاطي محمد -

أسابيع قليلة ويغلق العالم صفحة العقد الثاني من الألفية الثالثة، وسط قلق شديد على مستقبل البشرية من النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فبعد مرور عشرين عاما على بداية الألفية الثالثة يبدو العالم بعيدا عن تحقيق الآمال العريضة التي كان قد عقدها آنذاك لبناء مستقبل أفضل للجميع يتحقق فيه الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي والوحدة المجتمعية.

وشاءت الأقدار أن تأتى جائحة كورونا في العام الأخير من العقد الثاني لتضاعف بكل ما حملته من كوارث صحية من حدة القلق على المستقبل.

لم تكن التقارير الدولية في بداية القرن الحالي تشير إلى صورة وردية للعالم، ولكن الدول الكبرى والأمم المتحدة وجدت من الضروري المبادرة بطرح رؤى مستقبلية تبعث على التفاؤل تتخذ من بداية ألفية جديدة منطلقا للتخلص من أخطاء الماضي والتعهد ببناء عهد جديد يسوده السلام والأمن والرخاء للجميع، وهو ما تم في أكثر من مجال، وعلى أكثر من مستوى. وكان من الطبيعي والمنطقي الاعتراف بوجود عقبات اعترضت مسارات النمو والاستقرار في أكثر من منطقة طوال النصف الأخير من القرن العشرين، وكذلك وجود عقبات تعترض تحقيق الرؤى المستقبلية للقرن الحادي والعشرين. ولكن كانت هناك روح عالمية تدعم اتجاهات التفاؤل خصوصا أن العالم كان قد دفع ثمنا باهظا للحروب والأزمات السياسية الكبيرة، وبات من المحتم الاستفادة من العلم والحرص على التقدم وإعلاء قيم المساواة والعدالة بين الشعوب. وكانت الفكرة المشتركة الغالبة بين الجميع هي أن العالم مقبل على تغييرات جذرية في مختلف المجالات خلال القرن الثالث ويجب إدارة هذه التغييرات بحكمة ورشد بما لا يعيد للأذهان الكوارث التي وقعت خلال القرن العشرين. وفي هذا الإطار وجدنا عديد التقارير والمبادرات التي ترسم مستقبلا أفضل للبشرية دون تمييز، وخصوصا بالنسبة للارتقاء بحال الشعوب الفقيرة ومناطق النزاعات والحروب. إلا أن كل ذلك بدأ يتراجع شيئا فشيئا منذ بدايات القرن الجديد إلى أن وصلنا إلى الوضع الكارثي المتمثل في التداعيات الخطيرة وغير المسبوقة الناجمة عن انتشار جائحة كورونا التي أصابت الجميع بلا استثناء.

لقد سارت الأمور عكس ما كان منتظرا حيث تضاعفت حدة الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وبات شعار الأمن والسلام العالميين على المحك. ومضت التراجعات بسرعة شديدة وكأن انهيارا عاما قد حدث وما ردود الفعل لتجنب نتائجه الوخيمة إلا محاولات لتخفيف المحن لا إلى التصدي الجماعي الناجع. الأمثلة عديدة وتحمل صفة العموم حتى وإن كانت تتباين في حدتها وأسبابها. فعلى الصعيد الاقتصادي وبرغم موجة العولمة التي اجتاحت العالم وبشرت بنهضات غير مسبوقة في الإنتاج ونوعيته المتقدمة، وقعت النمور الآسيوية، أي الدول الصاعدة بسرعة الصاروخ في شرق آسيا، في كارثة مالية عام 1997 عندما أفرطت في الائتمان فتراكمت عليها الديون وعجزت عن سدادها، بحكم الأهمية الاقتصادية لهذه المجموعة (تايلاند وإندونيسيا وسنغافورة وماليزيا وهونج كونج وكوريا الجنوبية) آنذاك وارتباط كبريات الاقتصاديات العالمية بها، حدثت أزمة مالية عالمية كبيرة أضرت بعديد الدول. وبعد عقد واحد وتحديدا في عام 2008 وقعت أزمة مالية أخرى ضربت الأوضاع المالية في الولايات المتحدة، فيما يعرف بأزمة الرهن العقاري، وذلك عندما ارتفعت فجأة أسعار العقارات هناك وعجزت البنوك عن السداد. وامتدت الأزمة إلى دول أوروبية ارتبطت بنوكها بالبنوك الأمريكية، وكان من الطبيعي أن تزداد نسب البطالة ويتراجع الناتج المحلى في البلاد المتأثرة بالأزمة. وبعد عام واحد تفجرت أزمة مالية أخرى عام 2009 واستمرت عامين داخل سوق الاتحاد الأوروبي (منطقة اليورو) بسبب عجز حكومات عن سداد ديونها. والمدهش أن كارثة جائحة كورونا اجتاحت العالم بعد عشر سنوات من أزمة اليورو، وكأن هناك متوالية حسابية لوقوع أزمة اقتصادية كل عشر سنوات. ولكن لا مجال للمقارنة بين الأزمات السابق الإشارة إليها وما سببته الكورونا من كارثة اقتصادية. فالأمر هذه المرة ليس ماليا بل صحيا ترتب عليه وقف مصادر الحياة الاقتصادية جميعها. ولا يحتاج المقام هنا للتدليل على حجم الخسائر، لأن كل الشعوب تعيشها في حياتها اليومية، فالإصابات تعدت الخمسين مليون شخص على مستوى العالم كله، والوفيات أكثر من مليون شخص، والخسائر المالية تريليونات الدولارات.

وعلى المستويين الأمني والسياسي شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين عددا من الحروب الدامية نتيجة خلافات سياسية بين أطرافها، وكلها هزت العالم وقطعت أنفاسه، منها الحرب العراقية الإيرانية (حرب الخليج الأولى) امتدت ثماني سنوات بين عامي 1980 و1988 ونتج عنها خسائر كبيرة في الأرواح من الجانبين وأحدثت قلقا شديدا على أمن دول الخليج العربية وحركة الملاحة الدولية وأسواق النفط العالمية. وتزامنت معها حرب فوكلاند التي اندلعت بين بريطانيا والأرجنتين عام 1982 واستمرت 74 يوما. وقد نشبت عندما قامت الأرجنتين بغزو جزيرة فوكلاند ومنطقة جورجيا الجنوبية المتنازع عليهما مع بريطانيا فقامت الأخيرة بتحريك قواتها البحرية والجوية ودخلت في حرب مع الأولى التي انتهت باستسلامها. كما تزامنت الأحداث مع استعار الحرب الأفغانية السوفيتية (1979- 1989) وانتهت بخروج القوات السوفيتية من أفغانستان بعد عشر سنوات شهدت معارك دامية بين فصائل مختلفة من المجاهدين الأفغان والقوات الروسية. وتلت ذلك أشد الحروب دما وقسوة في البوسنة والهرسك ضمت كلا من يوغوسلافيا سابقا والبوسنة والهرسك وكرواتيا (1992- 1995) ولم تتوقف المعارك إلا بعد تدخل الناتو بدعم من الولايات المتحدة في عهد بيل كلينتون. وفى العام 1990 وقعت حرب الخليج الثانية عندما غزا العراق الكويت في عهد الرئيس العراقى صدام حسين، وقادت إلى تدخل عسكري دولي بقيادة الولايات المتحدة تمكن من تحرير الكويت في بداية 1991.

وعلى عكس كل التقديرات المتفائلة ببداية ألفية ثالثة للبشرية يسودها السلام والأمن، بدأ عامها الأول بحرب فتحت معها ملفا ملغما هو الإرهاب. ففي سبتمبر 2001 وقع حادث تفجير برجي مبنى التجارة العالمي في نيويورك من جانب تنظيم القاعدة المرتكز في أفغانستان والمدعوم من حركة طالبان المهيمنة على السلطة هناك. وردت الولايات المتحدة على الفور بشن حرب واسعة النطاق على أفغانستان. وعلى مدى عشرين عاما ظل مطلب خروج القوات الأمريكية من هناك حاضرا على مائدة كل الإدارات التي تعاقبت على البيت الأبيض، إلى أن أمكن توقيع اتفاق في فبراير 2020 يقضى بانسحاب هذه القوات خلال 14 شهرا. وكانت هذه الحرب مبررا لقيام الولايات المتحدة بالحرب على العراق وإسقاط نظام صدام حسين 2003 استنادا إلى رؤيتها بأن تنظيم القاعدة نقل نشاطه إلى العراق وأن به أسلحة دمار شامل (ثبت أنها لم تكن موجودة). وفى عام 2014 كادت تقع الحرب بين الشرق والغرب لأول مرة منذ الحرب الباردة، وذلك عندما تمت الإطاحة برئيس أوكرانيا المنتخب والموالى لروسيا عبر احتجاجات شابها العنف، فقامت قوات موالية لروسيا بالسيطرة على شبه جزيرة القرم (جنوب أوكرانيا) وسكانها من أصول روسية، ثم جرى استفتاء تم بمقتضاه انضمام المنطقة إلى روسيا الاتحادية وسط رفض أوروبي غربي وعدم الاعتراف بشرعية الاستفتاء. وقد تفاقم الخلاف بين موسكو والعواصم الغربية على خلفية هذه القضية. وقبل أن تمضى آخر شهور العقد الثاني من الألفية الثالثة اندلعت حرب محدودة بين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم ناجورنو كاراباخ تدخلت على إثرها روسيا وتمكنت من توقيع اتفاق بين البلدين قضى بوقف إطلاق النار ونشر قوات حفظ سلام روسية. وإذا نظرنا إلى حال المنطقة العربية فإن السنوات العشر الأخيرة شهدت كما هو معلوم للكافة ما يمكن اعتباره لونا من ألوان الحروب الأهلية سواء في العراق أو سوريا أو اليمن أو ليبيا، وكلها تجمع في أسبابها بين ما هو داخلي وما هو خارجي ولا شك أنها لا تسبب دمارا لشعوبها فقط وإنما تهدد أمن واستقرار العالم كله.

هكذا وبدون تهويل أو تهوين يتسم المشهد العالمي مع قرب العمل بالعقد الثالث بالإحباط تجاه ما لم يتحقق من آمال كانت معقودة على بداية ألفية ثالثة، وبالقلق الشديد على المستقبل فيما هو آت خلال العقد الثالث. ومع ذلك فإن هناك ضوء في آخر النفق المظلم يتمثل في الدرس القاسي الذي تعلمه الجميع من جائحة الكورونا. وربما كان هذا الدرس هو الإيجابية الوحيدة التي يمكن نسبها لهذا الوباء!. فمن المؤكد أن الهم الأكبر للجميع: دولا كبرى أو صغرى، خلال العقد الجديد هو الربط الوثيق بين الصحة والاقتصاد، حيث يصعب الفصل بينهما أو تأجيل واحد على الآخر. فالقاسم المشترك للجهد العالمي فرادى أو جماعات هو إنقاذ الاقتصاد بعد أن أدت الجائحة إلى إضراره بشكل جسيم يفوق الأضرار التي سببتها الأزمات المالية السابقة. ولكن لا يمكن استعادة العافية للاقتصاد بدون استعادة صحة الملايين من البشر الذين هم صلب عملية الإنتاج، والعمل على ألا تتكرر هذه الأخطار الصحية مستقبلا. مثل هذا الهدف، ووفقا للاعتبارات التي جاءت بها الجائحة للخبرة البشرية، يتراجع أمامه وزن الخلافات السياسية بين الأمم والحكومات المختلفة، أي بمعنى تأثيرها على الأوضاع السياسية داخليا كانت أم على مستوى العلاقات الدولية. وإذا كانت خسائر الحرب العالمية الثانية بشريا وماديا قد لعبت دورا أساسيا في تشكيل نظام عالمي يقوم على السلام والتعاون المشترك، فإن جائحة كورونا كفيلة باستعادة ما فقده النظام العالمي عبر السنوات الماضية من مبادئ وقيم وآليات للتعاون، وفى القلب من ذلك العمل على استعادة العافية الاقتصادية. والقصد أن الجائحة تفرض تهدئة الأزمات السياسية للتفرغ لإنقاذ الاقتصاد. ومما يبشر بالتفاؤل أن عددا من الملفات يجرى إغلاقها كالوضع في أفغانستان أو سوريا أو ليبيا أو ما بين تركيا وأوروبا أو بين الأخيرة والولايات المتحدة أو سرعة لملمة الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، كلها رسائل تصب في أن العالم يريد التفرغ لاستعادة العافية الاقتصادية ومن ثم وضع الأزمات السياسية جانبا.