أفكار وآراء

أمريكا ومأزق عزلتها السعيدة!

18 نوفمبر 2020
18 نوفمبر 2020

محمد جميل أحمد -

منذ أن دخلت الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية بتفجير ميناء بيرل هاربر على يدى انتحاريي «الكاميكاز» اليابانيين، ثم أعباء ما بعد الحرب، كخطة مارشال لإعادة بناء أوروبا، إلى جانب رعاية حلفائها في اليابان وألمانيا الغربية وكوريا الجنوبية وتايوان، ظلت الولايات المتحدة تضمر باستمرار تعبيرات عزلتها السعيدة، في جملة من القضايا المتصلة بفهم العالم، كما هو وليس كما يظنه رعاة العزلة السياسيون في الحزبين الكبيرين وأجندتهما المحلية.

يمكن القول، أن عقد الخمسينيات والستينيات وطوال سنوات الحرب الباردة كانت إدارة العالم بالنسبة للولايات المتحدة أكثر عقلنة بسبب التوازن الذي بدا واضحًا في سياسة المعسكرين الكبيرين؛ الرأسمالي والاشتراكي.

لكن مع انهيار المعسكر الاشتراكي وظهور عصر التطرفات (كما أسماه المؤرخ الماركسي البريطاني إيريك هابسباوم) الذي بدا فيه إرهاب الجماعات المتطرفة منذ بداية القرن الحادي والعشرين مع تفجير مبنى برجي التجارة العالمية في نيويورك على يد تنظيم القاعدة في 11 سبتمبر 2001 أصبح واضحًا أن فكرة النظام العالمي الجديد الذي ظلت تبشر به الإدارة الديمقراطية في عهد الرئيس بيل كلينتون أبعد من أي منال، لاسيما مع رواج أطروحة «صدام الحضارات» لصموئيل هنتغتون التي أزاحت أطروحة «نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما (وصاحبا الأطروحتين من الولايات المتحدة الأمريكية).

صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية بدت قوةً ناعمةً وأخاذة في كافة أنحاء العالم عبر الكثير من خصائص النمط الليبرالي للحياة العامة المنفتحة والمتعددة الأعراق والهويات، لكن كان واضحًا، كذلك، أن قوة العزلة التي عبر عنها الاختلال المستمر حيال أي محاولة دقيقة لفهم العالم الخارجي في برنامجي الحزبين الأمريكيين، أصبحت تتجدد باستمرار وتعكس مزاجًا قلقًا في تعاطي الولايات المتحدة مع ملفات العالم المعقدة.

فمن ناحية، لم تكن الولايات المتحدة ذات تاريخ كولونيالي طويل، مثل فرنسا وبريطانيا، لتكون أكثر فهمًا لطبيعة الأحداث المتعددة الوجهة والمكان للعالم السياسي من حولها، ومن ناحية ثانية؛ ظلت الرؤى المحلية والضغط الداخلي في أجندة برامج الحزبين أكثر تأثيرًا في مسار الانتخابات، كما أن الفترة القصيرة نسبيًا للدورة الانتخابية (4 سنوات) لدولة كبرى ومؤثرة في العالم مثل الولايات المتحدة بدت أقل مما هو مطلوب.

وفيما كان قادة السياسة والحرب في الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية أكثر إدراكا لمهامهم كقوة جديدة صاعدة على مسرح العالم إلى جوار الاتحاد السوفييتي، كان هذا الإدراك يتآكل مع نهاية الحرب الباردة، فيما كانت الملفات الجديدة وغير المتوقعة (كملف الإرهاب) ظاهرة غريبة لم تستطع الولايات المتحدة فهمها؛ لأن من طبيعة حروب إرهاب الجماعات المتطرفة أنها حروب عدمية ومن الصعوبة التحكم في مساراتها لطبيعتها الشبكية والعابرة للدول.

في الأثناء، كانت الموجة اليمينية التي بدت منذ عام 1979 مع تحالف البابا يوحنا مع كل من رئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر، ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية رونالد ريجان، إلى جانب الدعم الذي لقيته الجماعات الدينية المحاربة في الثمانينات كجماعات الجهاد الأفغاني (التي تحولت إلى كوابيس إرهابية فيما بعد) كل ذلك بدا يؤتي ثماره المختلفة الوجهة والمكان في بدايات الألفية الثالثة.

هكذا بينما تحول المجاهدون الأفغان والأفغان العرب من مناضلين ضد السوفييت إلى إرهابيين خطيرين، مع التفجيرات التي بلغت ذروتها الخطيرة بتفجير مبنى برجي التجارة العالمية في نيويورك عام 2001، كانت ردود فعل التطرف اليميني في الولايات المتحدة تطل برأسها مع جماعة المحافظين الجدد في إدارة الرئيس جورج بوش الابن بداية عام 2000 الذي خاض حربين كبيرتين ضد العراق وأفغانستان.

لقد كان التورط الذي تغرق فيه الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة يعكس باستمرار جوانب من عزلتها غير السعيدة في إدارة ملفات الحرب والسلام في بدايات الألفية الثالثة. وهكذا، بعيد مجيء الرئيس أوباما في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة انفجرت أحداث الربيع العربي لتربك المشهد وتزيده تعقيدًا.

بطبيعة الحال كان إدارة حكومة أوباما قاصرة عن فهم وإدارة تحديات الربيع العربي، الأمر الذي ضاعف من التداعيات السالبة لردود فعل ذلك الربيع في مصر وسوريا واليمن على نحوٍ أصبح معه الوضع كارثيًا عند مجيء الرئيس الجمهوري اليميني الشعبوي دونالد ترامب الذي بدا العالم في ظل إدارته الآفلة أشد خطرًا من أي وقتٍ مضى لاسيما منطقة الشرق الأوسط.

في كل تلك المحطات، منذ الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم، بدا واضحًا أن شيئًا من عزلة الولايات المتحدة (غير السعيدة) يعقيها باستمرار عن فهم العالم.