أفكار وآراء

تأملات في إرث التبر «الذي لا يصدأ»

17 نوفمبر 2020
17 نوفمبر 2020

عماد البليك -

عندما يختبر الزمان أي مشروع أو تجربة لنصف قرن، فهذا يعني أن هذه الخبرة الإنسانية قد وصلت إلى حد معقول من التشبع الذي يكسبها سمة التبر، الذي من صفاته أنه لا يصدأ ولا يتغير مع عوامل الطبيعة، يظل قادرا على تحمل كافة أشكال التغيرات من حوله.

هذا التشبيه أو هذه الصورة يمكن استعارتها لوصف مناسبة الخمسين، أو اليوبيل الذهبي التي تحتفل بها السلطنة احتفاء بمرور خمسين عاما على ميلاد الدولة العمانية الحديثة، التي أسس أركانها القائد الراحل جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور - طيب الله ثراه- ذلك الإنسان الفريد الذي تعجز الأوصاف عن إدراك عبقريته في نقل هذا البلد من طور المعاناة إلى رصيف العصر الحديث.

دولة العصر

ذلك الوعد الذي كان قد أطلقه، السلطان الراحل، وهو يتولى عرش عمان، ومنذ البداية كان أمامه ذلك التصور البعيد، فيما يعرف بـ «الرؤية» الاستشرافية التي تؤمن بأن كل شيء ممكن وأن الممكنات تتحقق من خلال التخطيط السليم والإرادة والتنفيذ السديد، وهي مجموعة من السمات التي اتصف بها الإنسان العماني فيما يعرف بالهمم العالية المأخوذة من صلب التجربة التاريخية، التي كان لها القدرة على التعايش مع المتغيرات والتحولات لإنتاج صورة الحداثة والتطور العصري.

في تجربتي الخاصة مع سلطنة عمان كزائر ومن ثم كمقيم يكاد تعرف على بصيص من مفاصل الحياة في هذا البلد وأدرك حيزا معقولا من تاريخه الثري والعظيم، يمكن لي أن أخلص إلى مجموعة من النتائج الأولية التي تشير إلى أن التجربة العمانية ظلت دائما ذات ملامح تشبهها هي وحدها، ليس بدافع البحث عن الاختلاف، إنما يأتي ذلك من خلال الحس الداخلي العميق بالذات، الناتج عن الصدق والتعمق في معرفة الأنا واختبارها في مقابل صروف الحياة وأناتها وكل ما يمكن أن تمر به الشعوب والأمم من تحديات.

كل هذه الأسلحة الروحية والمعنوية يضاف لها الإطار المعرفي والجدليات الثقافية والعلم والتربية والأخلاق كل ذلك.. كان له أن يشكل نسيح ما اصطلح عليه بـ «النهضة العمانية الحديثة» التي كان جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد عليه رحمة الله، يسميها رسالة ويبعدها عن مفهوم السلطة.

فالقيادة الحقيقية التي تمس قضايا الشعب وتطرح أسئلته بشأن الوجود والتطور والانتباه للتقدم وصناعة المستقبل، هي تلك التي ترى في ذاتها نفث الأنبياء والمصلحين الكبار في التاريخ وقد كان السلطان قابوس واحدا منهم سوف تذكره الأجيال جيلا بعد جيل.

الهوية الحديثة

هذا الإطار العام لفكرة النهضة العمانية التي تكمل خمسين عاما اليوم، في الثامن عشر من نوفمبر، وهو يوم مولد السلطان قابوس، في 18 نوفمبر 1940، يدخل هذا الإطار بمفهومه الكبير، اليوم مرحلة جديدة من المواجهة مع العصر والحداثة في صراع جدلي وكبير لا ينتهي، عناصره الإنسان والأرض والزمان، التاريخ بكامل ما فيه من أحداث وسرديات تمزج بين الواقع والمتخيل، لتكتب قصة الهوية الحديثة والمتجددة، والزمان بوصفه صيرورة للتحرك المستمر باتجاه إنتاج الذات في محيط التربة التي تعني البذور والجذور، حيث تنمو شجار المستقبل، في توليفة نعلم أنها معقدة لكنها تتبسط بالإدراك والوعي الخلاق الذي يكون له أن يتأمل ويفكر ويحلل ويدبر ليخلق تصورات جديدة لكل أصيل، يأخذ من عظمة الأصالة ما ينهض به إلى اللحظة انطلاقا للغد، ويصنع تصور المستقبل من خلال أرضية صلبة حاضرة.

إذا كانت للفلسفة والتأملات أن تعلمنا الكثير في فهم خصائص الإنسان والدول والشعوب، وقبل ذلك مجمل حركة الوجود من حولنا، فإننا في إدراك المفاهيم المتعلقة بالنهضة والتحديث وتطوير هذه المنظومات بحيث يكون لها أن تستوعب مرحلة جديدة من الزمان، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن الإدراك الأول والثاني قد لا يكون كافيا، وأن أي تجربة هي مزيج من البصر والبصيرة التي تأخذ المرء إلى مزيد من التأمل.

ذلك شأن أي مشروع إنساني كبير ورائد، ولعل السنين والعقود الطويلة هي التي تثبت مدى صلابة الشيء أم عدمه، وهذا الاختبار يدركه العمانيون من خلال المثابرة والإرادة حيث يستلهمون هوية التاريخ في صناعة المستقبل، يأخذون جسارة البحارة وشجاعتهم ويعرفون أن الأسطورة قد تصبح حقيقة وأن المتخيل قد يصبح واقعا، كل ذلك يقوم على كيمياء معينة، تتطلب بالفعل دراستها بمزيد من التقصي والتأني والتحليل الذي يأخذ بعلوم العصر وأدوات الحداثة في تفكيك ونقد جدل البناء والتطور والمجتمع وغير ذلك من العناصر المتشابكة التي تكتسب تعقيدا يكون في صورته الخارجية بسيطا لكنه صعب التقليد أو الأتيان بمثله.

الرسالة المتجددة

إن المراجعات لسيرة خمسين عاما تبدأ اليوم تجددها تحت قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - في مشروع أو رسالة «النهضة المتجددة»، هي التي سوف تفتح الطريق لإدراك شكل اللحظة المعاصرة ومن ثم السير إلى المستقبل القريب فالأقصى.

الصورة في كلياتها، تقوم على محصلة المعطيات التي سبق الإشارة إليها من قراءة جديدة ومتعمقة للتجربة والتحولات والمتغيرات على مدى سنين متعاقبة في ظل ثبات المبادئ والقيم، كما يبدو هذا الملمح جليا في قراءة السياسة الخارجية العمانية، التي هي نمط متسق يقوم على دبلوماسية ناعمة عمادها الإخاء والتعاون الإنساني الذي ينهض بقيم التكامل بين البشر في كل المجالات الممكنة بما يعزز الانتماء للكوكب وللأفكار الطيبة والروح الإنسانية التي تسعى للبناء والتطوير والتفكير الإيجابي إلى غير ذلك من مفاهيم رائعة.

كل ذلك لا يمكن أن يعتمد على فيزياء زائفة أو نوع من التمثيل إنما هو شيء متأصل في الذات، يتحرك فيها منذ أن كان بذرة في زمن قصي إلى الراهن والمعاصر. لقد طرح جلالة السلطان هيثم بن طارق، العديد من الأفكار والموجهات في رؤية جلالته «المستقبلية» التي عمادها الإنسان والابتكار والانطلاق بعمان إلى مصاف متقدم في توظيف الموارد البشرية والأرض لصناعة الحضارة والمساهمة في سجل التاريخ الكوني امتدادا للأمس، وهو يأخذ من عمق التجربة التاريخية يضيف لها الإرث الذهبي للخمسين سنة ماضية، ومن ثم يؤلف نموذجه الجديد الذي بدأت ملامحه أو معالمه تتضح من خلال حراك كبير خلال هذه السنة التي سوف يذكرها البشر بفعل هذه الجائحة المعلومة، رغم ذلك فإن ثقل الأحداث وعظمة التحديات لا شك أنها سوف تتكسر أمام الإرادة القوية تلك القدرة التي تلازم أهل عمان وسلاطينها في الانتباه للمستقبل من خلال وعي التاريخ وتأمل الراهن، حيث تكون المعرفة ليست مجرد ضرورة بل هي جزء من التكوين الذاتي والتعايش مع العالم في أبعاده المتعددة.

فنحن نعيش في عالم لا يمكن لنا أن نفهمه إلا من خلال التعلم المستمر والاختبار للتجارب وتهيئة النفوس لسائر المتغيرات والطوارئ، وقبل ذلك فإن ثمة ما يمكن أن يكون إلهاما ربانيا أو «كاريزما» خاصة يختص بها الخالق بعض من عباده ليصبحوا قادرين على الإضافة وصناعة التاريخ.

ثمة العديد من الرؤى والأفكار والتأملات التي لا تشكل خلاصات بل تفتح أسئلة لقراءة هذه التجربة الكبيرة، هذا التاريخ الذي لابد أنه سيكتب بطريقة أفضل في المستقبل من خلال تفكيكه بدقة ووعيه بروح نقدية خالصة، وجدل ملهم يأخذ بالروح الإنسانية إلى تتويج كل ما هو طيب وفي صالح الإنسان والإنسانية.