أفكار وآراء

ما وراء الصمت

17 نوفمبر 2020
17 نوفمبر 2020

مصباح قطب -

لم تمض إلا ساعات قليلة، على توقيع أكبر اتفاق عالمي - إقليمي - للتجارة الحرة، يشمل عشر دول بجنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاند، حتى نقلت وكالة «بلومبرج» عن ثعلب السياسة «الأمريكية» هنري كيسنجر قوله انه يتعين على الإدارة الأمريكية الجديدة سرعة العودة إلى التواصل مع الصين قبل أن تتفاقم التعقيدات وينحدر الأمر إلى صدامات عسكرية. يدعم هذا التصريح ومن دون إعلان جو بايدن الذى ينظر إلى العلاقة مع الصين بمنظور مختلف عن ترامب، ولكنه حازم أيضا، أي بما يرضي صقور مثل كيسنحر. ويفيد التصريح أيضا بأن هناك طريقين لا ثالث لهما أمام الولايات المتحدة حيال الصين ، فإما تفاوض على تحقيق مصالح مشتركة والقيام بقيادة ثنائية للعالم، وإما صدامات قد تمتد إلى حروب مباشرة. الغريب أن ساكن البيت الأبيض لم يعلق على الاتفاق حتى الآن مع أنه لو تعمق فيه لقال عنه انه «كورونا» الصيني بحق، بدلا عن اتهامه السابق غير المدعوم بأدلة للصين بنشر كورونا والكذب بشأنه، لأنه، أي الاتفاق، يعزز موقف قيادة الصين لآسيا وللاقتصاد العالمي برمته.بل ولم يعلق عليه أيضا جو بايدن كما لم تصدر تعليقات من كبار قادة الدول الغربية.

وكان أهم ما هيمن على رسائل الإعلام التي نقلت الخبر دون توسع، هو أن الاتفاق يتم بدون الولايات المتحدة علما بأنه لا يشمل روسيا أيضا، كما غابت عنه الهند والتي كانت قد شاركت فى مفاوضاته منذ اطلاقها في ٢٠١٢، لكنها

انسحبت في العام الماضي خشية أن تصاب صناعات هندية بالضرر جراء إلغاء التعريفات الجمركية وقد ترك الأعضاء الباب أمامها مفتوحا للعودة إلى الانضمام للمنطقة العربية أيضا لفت النظر.

وجود نوع من الغياب عن إدراك الحدث وقلة الاهتمام او ربما انتظار تفاصيل أكثر حول ما تضمنه الاتفاق حتى يتبين مدى انعكاسه على التجارة والاستثمار بين تلك الكتلة وبين الدول العربية ككل او منطقة الخليج بالأكثر

ولعل المنطق الطبيعي هنا يحتم الدعوة إلى تدارس عربي واسع للاتفاق، يشارك فيه وزراء الاقتصاد والتجارة العرب ومعاونوهم، فنحن بإزاء كتلة اقتصادية تضم ثلث سكان العالم وتشارك في الناتج العالمي بنحو ٢٩ ٪، وفي التجارة العالمية

بنحو ٢٨ ٪، ويتفوق التكتل الجديد على حجم تجمع التجارة الحرة الذي يضم أمريكا وكندا والمكسيك، وكذا على الاتحاد الاوربي.

وقد يكون من المناسب أيضا أن تتأهب الدول العربية لاحتمال عودة منطقة التجارة الحرة عبر المحيط الهادى أي بين أمر يكا وأكبر دول آسيا، ولو ببعض التعديل، بعد أن كان ترامب قد انسحب منها، واتساقا مع توجه بايدن، وفي ظني وخلافا لتحليلات كثيرة، ان انسحاب الهند في العام الماضي يمكن أن تكون وراءه دوافع جيو سياسية، وان الهند ربما تفضل اتفاقا مع الولايات المتحدة عن آخر فيه الصين.

الاتفاق الذى تم أبرامه في منتدى الآسيان يوم الأحد الماضي، صادف أيضا ظهور مؤشرات نمو جيدة في اليابان وفي النمو الصناعى الصيني وفي زيادة الاستثمار الأجنبي إلى الصين فى الأشهر العشرة الماضية، مع استمرار انحسار كورونا في أغلب الدول الموقعة، وكل ذلك جعل كثيرين يقولون إن إنقاذ الاقتصاد العالمي من آثار كورونا سيأتي من آسيا بيقين، إلا أن أهم العبر التي سيتوقف عندها الأمريكيون بصفة خاصة هي أن هذا أول اتفاق تعددي للتجارة الحرة تنخرط فيه الصين، بعد أن كانت اتفاقياتها قاصرة قبل ذلك على الشكل الثنائي، والاتفاق بهذا المعنى يؤهل الصين أكثر وأكثر للتعامل مع التنوع العالمي في النظم والثقافات والتشريعات، وأمور معقدة مثل الملكية الفكرية وشهادات المنشأ، ونقل التكنولوجيا، ، كما انه سيقلل إلى حد بعيد ارتهان الصين للولايات المتحدة في بعض الاحتياجات الالكترونية والنظم. قد يثار فى كواليس قمة العشرين المقبلة بالسعودية أحاديث حول الاتفاق، وقد تتبلور اتجاهات في مواجهته أو في دعمه، لكن من المؤكد أن الكل سيدرك أن العالم بعده قد اختلف، حتى وإن كان التطبيق سيستغرق عشرين عاما من إتمام التصديق عليه.