أفكار وآراء

كيف صوت الأمريكيون ولماذا؟ تحليل استطلاعات ما بعد التصويت

16 نوفمبر 2020
16 نوفمبر 2020

د.صلاح أبونار -

انتهت الانتخابات الأمريكية بالنهاية التي توقعها الجميع على مدى عام، بفوز بايدن بالرئاسة ليصبح الرئيس الأمريكي السادس والأربعين.

وبخسارة ترامب للانتخابات يصبح الرئيس الحاكم الحادي عشر، الذي خسر معركة إعادة الانتخابات منذ تأسيس النظام الأمريكي 1787، وخامس من خسرها على مدى القرن الأخير من تاريخ النظام.

كانت مقدمات ومؤشرات هذا الفشل حاضرة بقوة على مدى الأشهر الستة السابقة على الانتخابات، ولكن ما تخبرنا به استطلاعات رأي الناخبين بعد قيامهم بالتصويت يمتلك دلالة أكثر يقينية على دوافع الاختيار، ويمنحنا مؤشرات رقمية واضحة عن تكوين القوى الاجتماعية التي ساندت المرشحين، فما الذي تخبرنا به تلك الاستطلاعات؟

سنقرأ فيها مؤشرات رقمية واضحة تخبرنا عن القوى الاجتماعية التي دفعت ببايدن إلى البيت الأبيض. تشكلت تلك القوى حول ثلاثة متغيرات: العرق (الأثنية) والوضع الاجتماعي أو الطبقي والعمر. فلنبدأ بالعرق أو الإثنية.

حظي ترامب على دعم الناخبين البيض بنسبة 57% مقابل 42% لبايدن، ويشكل هذا استمرارية لنمط انحياز البيض التقليدي للجمهوريين، لكنها استمرارية تبدو مرشحه للتآكل، حيث ارتفعت بنسبة تأييد البيض للديمقراطيين من 37% عام 2016، مع ثبات نسبة تأييدهم للجمهوريين في 2016 بنسب 57% أيضًا، وفي المقابل حظي بايدن بدعم غير البيض التقليدي والقوي للديمقراطيين، فلقد حصل على دعم 87% من السود مقابل 12% لترامب، و87% من الهيسبانيك مقابل 32% لترامب، و63% من الآسيويين مقابل 31% لترامب.

وتبدو السيطرة الديمقراطية القوية على غير البيض بدورها آخذة في التآكل، فلقد انخفض تأييد السود لهم من عام 2016 بنقطتين بينما ارتفع تأييدهم للجمهوريين بأربع نقاط كاملة، وحافظوا على نفس درجة تأييد الهيسبانيك عام 2016 ولكن تأييد الهيسبانيك للجمهوريين انخفض خمس نقاط، وتراجع تأييد الآسيويين لهم نقطتين عن 2016 بينما بينما ارتفع تأييدهم للجمهوريين أربع نقاط.

ماذا بشأن المتغير الاجتماعي أو الطبقي؟ سنجد شكلان لتأثيره، الأول مستوى التعليم، ويحظى بالجزء الأعظم من الاهتمام لدوره في انتخابات 2016، عبر اكتساح ترامب لأصوات البيض غير الجامعيين في الغرب الأوسط الشمالي. في 2016 حصل ترامب على 66% من أصوات البيض غير الجامعيين مقابل 29% لكلينتون، وفي 2020 ارتفعت نسبة ترامب بنقطة واحدة بينما دفع بايدن بنصيب الديمقراطيين إلى 32%.

ويبدو التقدم هنا محدودًا ولكن لو وضعناه في إطار تغير وزن البيض غير الجامعيين داخل مجمل القاعدة الناخبة سيبدو أكبر، ففي عام 2016 كانت نسبتهم 44% وانخفضت إلى 41.7% عام 2020، وفيما يتعلق بأصوات الجامعيين حصل ترامب عام 2016 على 48% من أصوات البيض مقابل حصول كلينتون على 45%، وفي 2020 ظلت نسبة ترامب 48% ورفع بايدن نصيب الديمقراطيين إلى 51%.

وسنجد الشكل الثاني للمتغير الاجتماعي في إجمالي الدخل السنوي للأسرة، في 2016 صوتت الشريحة الدنيا الأقل من 50.000 دولار بنسبة 53% لكلينتون و40% لترامب، وفي عام 2020 سنجد تصويتها للديمقراطيين قد ارتفع إلى 57% و42% للجمهوريين.

وفي عام 2016 صوتت الشريحة الثانية الأقل من 50.000 بنسبة 52% لكلينتون و41 % لترامب، وارتفع عام 2020 إلى 58% لبايدن وظل كما هو 41% لترامب. وإذا واصلنا المقارنة عبر بقيه الشرائح صعودًا للشريحة الأعلى، سنلاحظ أنه كلما ازداد مستوى الدخل زاد معدل التصويت للجمهوريين، وأن معدلات التصويت تغيرت وفقًا لهذا المنطق صعودًا وهبوطًا بين 2016 و2020.

تتعامل الاستطلاعات مع متغير السن عبر تقسيم الناخبين إلى أربع شرائح عمرية. في الشرائح الثلاث الأولى حصل الديمقراطيون على معدلات تصويت أعلى من الجمهوريين، ولكن بهامش متراجع من 27 نقطة في الأولى 18-29 سنة، إلى 7 في الثانية 30-44 سنة، إلى نقطة واحدة في الثالثة 45-60 سنة، وفقط في الرابعة (أكبر من 65) تفوق الجمهوريون بمعدل 51% مقابل 48% للديمقراطيين.

وبمقارنة نتائج 2020 مع 2016 حقق الديمقراطيون اختراقات متفاوتة، في 2016 حصلوا على دعم 55% من الشريحة الأصغر، وفي 2020 قفز نصبيهم إلى 62%، مقابل تراجع الجمهوريون من 36% إلى 35%، وفي الثانية واصل الديمقراطيون مكاسبهم ولكن بنقطة واحدة بينما قفز الجمهوريون اربع نقاط، وفي الثالثة واصلوا تقدمهم بمقدار 6 نقاط كاملة، بينما تقدم الجمهوريون ثلاث نقاط فقط، ثم واصلوا تقدمهم في شريحة الأكبر من 65 بمقدار 3 نقاط، بينما تقدم الجمهوريون بنقطة واحدة، ولكن تأثير متغير السن تحدد عبر تفاعله مع المتغير الأثني، في كل الشرائح صوت البيض للجمهوريين بمعدل أعلى من تصويتهم للديمقراطيين، وفيها كلها صوت السود والهيسبانيك والآسيويون للديمقراطيين بمعدلات أضعاف تصويتهم للجمهوريين.

كيف يمكننا تفسير فعل تلك المتغيرات لصالح الديمقراطيين؟ هناك عدة مداخل للتفسير، مدخل علاقة تمثيل الديمقراطيين التاريخية للفئات المعبرة عن تلك المتغيرات، بمرتكزاتها الاجتماعية المغذية وهياكلها السياسة المعبئة، ومدخل المتغيرات العاصفة التي أطلقها تغلغل الكورونا وتداعياتها الاقتصادية، مرورًا بالاضطرابات الواسعة والتعبئة السياسية التي أثارها مصرع فلويد، وانتهاء بقصور نمط إدارة ترامب للازمات وتأثيره على مدى تماسك مؤسسات الدولة، ومدخل تأثير شعبوية ترامب بما صاحبها من انقسام وطني وتعبئة للقواعد الحزبية التقليدية، لكن هناك مدخلًا رابعًا يمنحنا القدرة على ربط تلك المتغيرات، بنمط التحولات التاريخية التي تشهدها الحياة السياسية الأمريكية، ونجده داخل تحليلات الدكتور ويليام فراي المنشورة على موقع مؤسسة بروكينجز.

ينطلق تحليل فراي من حقائق التغيرات الديموغرافية العميقة، التي شهدتها أمريكا من العقد الأخير في القرن الماضي، وستواصل زخمها خلال القرن الجديد، في 1980 كانت نسبة السكان البيض 80%، مقابل 11.5% للسود و6.5 % للهيسبانيك و1.8% للآسيويين. وعندما نصل إلى 2000 سنجد نسبة البيض قد تدنت إلى 69.1% وأصبح السود إلى 12.1% والهيسبانيك 12.6% والآسيويون 3.8%، وتواصلت التغيرات لينخفض البيض عام 2019 إلى 60.1%، ويصبح السود 12.5% والهيسبانيك 18,5% والآسيويون 5.9%. ووفقًا لتقدير معين ستواصل نسبة البيض انخفاضها لتصل 44% عام 2060، ويرتفع الهيسبانيك إلى 29% ومعهم بقية الأثنيات بمعدلات متفاوتة، وبالتوازي مع ذلك شهد التركيب الأثني للقواعد الناخبة تغيرات جذرية، في عام 2000 أصبح التركيب الأثني للقواعد الناخبة على النحو التالي: 76% للبيض و7% للهيسبانيك و12% للسود و2% للآسيويين، وفي 2018 أصبح 67% للبيض و13% للهيسبانيك 3% للسود و4% للآسيويين.

ووفقًا لتقديرات الدكتور فراي سيصبح تركيب القاعدة الناخبة في 2036 هكذا: 59% للبيض و19% للهيسبانيك و9% للآسيويين وسيظل السود 13%، ولاحظ فراي أن الديمقراطيين عجزوا في انتخابات 2000 و2004 عن قراءة خريطة التحولات الاقتصادية الديموغرافية، وحصروا جهدهم الانتخابي في ولايات الغرب الأوسط الصناعي وساحل الباسفيكى والنقابات العمالية، ولم ينتبهوا لأهمية الولايات النامية الجديدة في الجنوب وإقليم ما بين الجبال الغربي والنمو المتواصل في حجم الأثنيات غير البيضاء، وهكذا خسروا الانتخابات.

وكان أوباما وفقًا لتحليل فراي هو الذي انتبه للحقائق الجديدة، واطلق استراتيجية انتخابية جديدة استهدفت المجالات الاقتصادية النامية والأثنيات غير البيضاء الآخذة في التوسع، مطلقا ما تدعوه مصطلحات فراي «التيار التأسيسي الأمريكي الجديد»، وتمكن هذا التيار في انتخابات 2008 من إيصال أول رئيس أسود إلى البيت الأبيض بعد 43 عامًا من إصدار قانون الحقوق المدنية، واستطاع أن يكسب الولايات الصراعية سريعة النمو في نيفادا وكولورادو ونيو مكسيكو وفيرجينيا وفلوريدا ونورث كارولينا، كما كسب ولايات أخرى بطيئة النمو في بينسلفانيا وميتشيجان وويسكونسون وايوا واوهايو، وفي هذا السياق استطاع كسب ضواحي المدن بهامش 50-48 نقطة، والشباب تحت سن 45 وخريجي الكليات، والهيسبانيك بهامش 36 نقطة، والمزيد من القواعد داخل السود والآسيويين، علاوة على قطاعات من الناخبين البيض التقليديين للجمهوريين، ولكن فراي ينبهنا لوقوع أوباما في خطأ التركيز على ناخبي الأثنيات غير الملونة على حساب البيض، واتضحت هذا في انتخابات 2012 عندما حصل على أقل نسبة أصوات بيضاء حصل عليها الديمقراطيون منذ 1992. ووفقًا لفراي يشكل نجاح ترامب في 2016، رد الفعل المضاد لنجاح التيار الأساسي الجديد الذي أطلقه أوباما. تمكن ترامب من هزيمة كلينتون عبر التركيز على قطاع الناخبين كبار السن، الذي يسيطر على تكوينهم البيض بنسبة 78% للناخبين الأكبر من 45 سنة و87% للناخبين الأكبر من 65 سنة، والوجه المنطقي للهيمنة البيضاء هو التسيد الجمهوري.

وكانت النتيجة الطبيعية للتركيز على كبار السن البيض، تركيز مواز على حملة المؤهلات غير الجامعية الذين ترتفع نسبتهم فيهم. وخلف تصويت غير الجامعيين المكثف لترامب سنجد شيئا من تأثير الركود الاقتصادي، ولكنه قوته الأساسية كانت تلك الفجوة الثقافية التي باتت تفصلهم عن الأمة الأمريكية الجديدة الأكثر تنوعًا وعولمة، أي السياق نفسه المشكل للتيار الأساسي الجديد.

وتشكلت استراتيجية الجمهوريين الجديدة في 2020 وفقًا لتحليل فراي، نوعا من إعادة تشكيل تيار أوباما الجديد عبر مواصلة التركيز على الأثنيات غير البيضاء ولكن مع زيادة الاهتمام بالبيض، وهو ما يعني اعتبار فشل أوباما في اكتساب البيض عام 2012 هو المقدمة لنجاح ترامب في اختراقهم، ونعتقد أن تحليلنا لنتائج استطلاعات الخروج يثبت صحة تحليل فراي الأخير.