أفكار وآراء

وحش المحو ينهش حضارتنا

15 نوفمبر 2020
15 نوفمبر 2020

خميس بن راشد العدوي -

حضارات عديدة غابرة.. توجهت إليها عناية الآثاريين والباحثين فنقّبوا فيها، وقدموا عنها بحوثاً عميقة ومثرية للمعرفة الإنسانية؛ لاسيما حول تاريخ الإنسان وتطور أسلوب حياته، وأنظمته الدينية والسياسية والاجتماعية، بل إن العلماء المختصين تمكنوا من إعادة حضارات إلى واجهة الحياة، بعدما غطاها الزمن بدثاره تحت الأرض، كالحضارات السومرية والأكادية والفرعونية. لكن هناك أيضاً حضارات لم يُكشف عنها بالقدر الذي يضعها في سياقها التاريخي، منها الحضارة العمانية، وهي حضارة تشير إلى وجودها بقوة أطلالُها الباقية، حيث القبور البرجية والرسوم الصخرية والنقوش الكتابية والنُصب الدينية والجُدُر المضفورة بالحجارة، التي يمكن مشاهدتها، ومعاينة ما توحي به من دلالات، فضلاً عمّا ضمته الأرض تحت سُجُفها، من مدافن ومبانٍ وأدوات الأعصر الأوابد.

عمان.. تمتلك مداً حضارياً عريقاً على أرضها وتحت طبقات ترابها، ربما يتكوّن من أكثر من حضارة، بيد أنه لم يكتشف منه إلا النُزُر، وهذا عائد إلى أن التنقيبات الآثارية بدأت متأخرة مقارنة بالحضارات المجاورة، ومع أهمية هذه التنقيبات؛ إلا أنها لم ترسم حتى الآن على خارطة عمان الحضارية إلا خطوطاً عامة، تلمح صُواها دون أن تستطيع تتبع سُبلها، وذلك لقلة الدراسات التي تعقب التنقيبات والاكتشافات، إذ إن هذا العمل دوره العناية بالتنقيب والبحث في المواقع الآثارية، ثم تدوين وتصنيف وحفظ المعثورات والأدوات المكتشفة، وقد يعقب ذلك تأهيل الموقع ليكون مزاراً سياحياً، وهذا عمل عظيم، إلا أنه من الضروري أن تتلازم معه الدراسات الحضارية التي تربط بين المعطيات العلمية والمواد المكتشفة وأبعادها الثقافية، حتى يتمكن الباحثون من بناء معالم الحضارة العمانية القديمة.

السلطنة.. أولت اهتماماً مشكوراً بآثارها، مما يجعلنا على مشارف الحديث عن حضارة مكتملة الأركان، لكن مازلنا في بداية طريق طويل، ولأننا في البداية -وهي شاقة- فإنه يتحتم علينا أن نبذل جهوداً جبّارة للحفاظ على بقايا هذه الحضارة، قبل أن يعركها الزمن بثفاله إلى غير رجعة.

أتحدث هنا عن إحدى الحضارات التي قامت على الأرض العمانية خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، والتي أسميتُها «حضارة سلوت»، وهي من أهم الحضارات في الجزيرة العربية.

تمتد معالم حضارتنا من صور إلى خصب عبر سلسلتي جبال الحجر الشرقي والغربي، وهي تتشكل من عشرات البلدات القديمة؛ والتي كان بعضها ممالك ومدناً، وأعتبرُ «حضارة سلوت» الطور المؤسس للتاريخ والدولة في عمان، ومن خلال بحثي حوله.. فأرى أنه ترك أثره العميق على المجتمع العماني إلى العصر الحديث. ومن هنا تأتي أهمية دراسة هذا الطور الرائد، بالإضافة إلى أنه مداخل لعلوم عديدة وفواتح لمجالات كثيرة.

إن الحفاظ على آثار تلك الحضارة الفخمة بات واجباً وطنياً، يجب أن تتجه إليه عناية الحكومة بمؤسساتها التي تمُت بصلة لتراث البلد وثقافته، بل أرى بحسبما وقفت عليه من تعدٍّ على الآثار وجوب إعلان الطوارئ للحفاظ عليها، ولقد تتبعت كثيراً من مواقعها التي تتعرض يومياً لمحو رسوماتها وثلم نقوشها المحفوظة على الحوائط الصخرية، وإبادة أطلالها من أسوار ومبانٍ وقبور، سواءً أكانت على سطح الأرض أو سفوح الجبال أو في بطون الأودية وبين شعابها.

وكل ما أذكره هنا.. وقفت عليه بنفسي، والكثير منه التقطت منه صوراً، لتبقى شاهدةً على المأساة التي تقتلع جذور حضارتنا، إن ما أفنته الخمسون السنة الأخيرة من هذه الآثار يضاهي ما أتت عليه عوادي الدهر خلال الخمسة آلاف سنة الذاهبة، ولا أبالغ فيما أقول، فالواقع أصدق شاهد، وبالإمكان رصده في أي يوم، فلا يزال وحش المحو يفري بمخالبه أديم أثمن كنوزنا الحضارية.

تتمتع «حضارة سلوت» بالقبور البرجية؛ وتضم عمان مئات الآلاف منها، فهي من سماتها المميزة، وقد أطلقتُ عليها «أهرامات عمان» لكثرتها وشموخها وعظم الصخور التي بُنيَ بها العديد منها، فقد مررت على بعضها وقد هُدم، بل بعضها جُرف بالمعدات الثقيلة. وشاهدت قبوراً على سفح جبل مهيب بالآثار هُدّت أسسها بالصخور الضخمة المدحرجة من قمة الجبل أثناء بناء أحد المشروعات، والشركة التي أقامته لم تُبصر بأنها منطقة آثارية، وربما أبصرت فتغافلت، وأزالت ما على الجبل وحطمت ما على سفحه.

ووقفتُ على حُفَر جيولوجية أو مغارات آثارية تتمدد حولها معالم موغلة في القدم، بل المنطقة فيما يبدو بأسرها كانت إحدى بلدان هذه الحضارة، وقد فُرشت أرض البلدة بالعمران الحديث وكُبست الحُفَر أو المغارات بمخلفات البناء.

ورأيت ساقية فلج قائمة أخاله من أبكر الأفلاج التي ترجع إلى تلك الحقبة، وما أن عدت إليه بعد مدة حتى وجدته حزيناً باكياً قد قطّعت آلات الحَفْر لأعمدة الكهرباء بعض أوصاله، وهذا في منطقة من أعاجيب المناطق الآثارية في عمان، وتحكي فصلاً من فصول السيادة العمانية في المنطقة العربية.

ثم أتيت على قرية فانية ترجع كذلك إلى حوالي الألفية الثالثة قبل الميلاد، فوجدتها مزكومة بالنفايات النتنة، وهي لا تزال تردم يومياً بالأوساخ وأوصال الحيوانات التي علت الصخور فغارت رسوماتها البديعة، التي قد تكشف لنا عن الجوانب الدينية والسياسية والاجتماعية لمن سكن هذه المنطقة. وبقرب هذا المكب الآسن منطقة تزخر بالآثار؛ ولما عدت إليها هذه الأيام وجدت المعدات تجرفها لتحمل الأتربة منها، غير آبهة بأنها تمحو حضارة لا يمكن استردادها أبداً. ثم تدخل قليلاً فتجد منطقة واسعة قد سوّيت أرضها وشبّكت لتكون مقبرة للسيارات المعطلة، ولا يدري -وربما يدري- من عمل ذلك بأنه يساهم في قتل عناصر لا زالت حية من تلك الحضارة، وأستطيع أن أقول بأن حوالي نصف آثار هذه القرية التي وصلت إلينا قد أزيل إلى الأبد، وكان بالإمكان وضع برامج عملية للحفاظ عليها، وفي هذه المنطقة عثرنا على كتابة قديمة من لغة ذهب المتكلمون بها -والمختصون يدركون قيمتها العلمية- في أكثر من موضع، فما يدرينا لعل آلات الجرف قد أتت على بعضها، فخسرنا خسارة لا تعوض.

وتتبعت سور مدينة أبدي.. فصدمت بالمعدات التي نهبت مقاطع منه، بحيث فوّتت على الباحثين التنقيب فيه لمعرفة أسراره، وربما فوّتت عليهم أيضاً تحديد أبعاد المدينة ذاتها.

القلم.. تجف مآقيه كمداً عند الحديث عمّا شاهدته من الدمار أثناء بحثي عن «حضارة سلوت»، ويكفي أسىً أنه أزيل حائط صخري من جبال أحد الأودية المشهورة، عليه رسومات ونقوش وآثار لآلاف السنين، واستمر التدوين عليه إلى عهد قريب، بحيث يصح أن يعتبر من أقدم المدونات العمانية وأطولها عمراً، وقد سجّل عليه بخطوط مختلفة منذ الحَفْر على الصخر حتى الكتابة بالآلات الحادة، مروراً بالطَرْق.

ما ذكرته هنا غيض من فيض جارف أتى على جوانب من حضارة إنسانية على المستوى العالمي، ووطنية على المستوى العماني. أدرك بأنه لا يمكن إيقاف تمدد الحياة اليومية، ولا زحف العمران الحديث، ولكن أيضاً من الخطأ الجسيم أن نبقى مكتوفي الأيدي، لا نتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه الحضارة العتيقة، فنحمي أهم عناصرها الثقافية، حيث بالإمكان أن نقوم بمسح شامل لهذه الآثار، فنصوّرها؛ ونرصد إحداثياتها الجغرافية، ونحفظها إرشيفياً، ثم نصدر بها معاجم علمية؛ مبوبة بحسب أزمنتها ومواضيعها ووضوحها ودلالاتها، ويمكن أن نعمل لها خارطة رقمية تفاعلية، نضيف إليها باستمرار ما جرى كشفه، كما أنه من الأمانة الوطنية والواجب الحضاري متابعة هذه الآثار على أرض الواقع، ومن وجد متعدياً عليها يُقاضى لينال جزاءه ويرتدع غيره.

حضارتنا.. أمانة جسيمة، والشروع في الحفاظ عليها أصبح عاجلاً غير قابل للتأجيل، فكل يوم يمر يعني احتراق صفحات من تأريخنا، فالبدار.. البدار.