أفكار وآراء

أعلى من الخسارة وأقل من الربح

15 نوفمبر 2020
15 نوفمبر 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

عندما نقود مركباتنا، ونرى فيها تلك المتانة، وتلك القوة، وتلك النضارة، نحسبها أن لا تخذلنا في المسافة الفاصلة بين نقطة الانطلاق، ونقطة الوصول، فشعورنا هذا يلهينا عن التوقف للتأكد من بعض النواقص المتوقعة أن تعرقل مسيرتنا بالصورة الصحيحة والسليمة، كفحص الإطارات.

يمكن الجزم؛ أنه من أصعب المواقف في حيواتنا كلها؛ هو القدرة على أن نبقى في حالة من التوازن، بين مطالب الروح، ومطالب الجسد، والتوفيق بين هذه المتطلبات الخصوصية، وبين ما ينبغي البقاء عليه في علاقاتنا مع الآخرين من حولنا، وهم كثر، وتتعدد مشاربهم، واحتياجاتهم، وقربهم أو بعدهم عنا، ولا أتصور إطلاقا أن فردا ما؛ استطاع أن يوجد «توليفة» دائمة لهذه الصورة الحالمة، فبقدر ما أن «رضا الناس غاية لا تدرك» فإنه في المقابل أن الإنسان حالة متغيرة، غير مستقرة، ما تصبح عليه من حالة يمكن أن يتغير أكثر من مرة حتى مساء نفس اليوم، ولذلك وثقت جميع الاتفاقات بين الناس من خلال الترسيم الرسمي الذي لا يقبل التغيير والتبديل، وإلا لضاعت الحقوق، وانتهكت الحرمات، فالبقاء المطلق هو لله الواحد القهار، أما ما عدا ذلك فكله محكوم بالمواقف النسبية، وبحالات التغير الدائمة.

وعودة إلى ما يمكن؛ فقط؛ البقاء عليه من حالات التوازن الموقوتة زمنيا، أو مكانيا، فإن ذلك يظل محكوما بفترة الزمنية القصيرة فقط، وهذه الفترة الزمنية تظل أسيرة ثيمة معينة، تصب كلها في خانة المصلحة المؤقتة، سواء كانت مصلحة مادية، أو مصلحة معنوية، ارتبطت هذه المصلحة بفرد، أو بجماعة، أو بمكون جغرافي معين، وبالتالي فهذه الدرجة من التوازن تظل عند سقف محدد هو « أعلى من الخسارة، وأقل من الربح» ولعله مستوى (الوسط المثالي) حيث «لا ضرر ولا ضرار» وهو الوسط الذي يجمع عليه الكثيرون، لأن الميل قليلا نحو أي طرف من طرفي المعادلة هذه، سوف يفضي إلى ضرر أكبر، وهل ما يحقق مكاسب من الربح أكثر يكون مكتسبا لضرر أكبر؟ أقول قد يكون نعم، لأن الإغراق في أحد طرفي المعادلة يؤدي إلى ضرر بالآخر، وكما هي الحكمة: «الفضيلة بين طرفين؛ كلاهما رذيلة» فقد تكون الخسارة؛ أحيانا؛ هي مكسب، فتنازلك عن حق ما - قد يعده أحدهم أنها خسارة - ولكن قد يعود إليك بمكاسب كثيرة، حيث يحسب لك الطرف الآخر هذا التنازل، ويعده تضحية عالية القدر والقيمة، فيكبر رصيدك عند هذا الآخر في فرديته أو مجموعته، وتحقيق نصف النجاح خير لك من فقدان كل النجاح، وإذا الشيء بالشيء يذكر فهناك ثمة مساحة فارغة قد ينظر إليها بشيء من السلبية، فعلى سبيل المثال؛ ففراغ نصف الكأس، يعده البعض، مهلكة، ولكنه قد يكون حاجزا شفافا فقط، بينما الحقيقة العلمية تؤكد أن ليس هناك فراغات مطلقة، إنما هناك فراغات نسبية تتيح للضوء أن يتوغل بينها وينفذ إلى الجهات المظلمة، كما هو الحال عندما يتوغل الماء بين مسامات التربة حيث ترى كمية فقاعات الماء المنبثقة من التربة، وكأن هذه التربة مملوءة بالغاز، وهي كذلك بالطبع، ولكن هل نرى كمية الهواء المتداخل بين جزيئيات التربة؟ بالطبع لا، وهي بالتأكيد التي تمد مجموعة الأحياء الدقيقة؛ التي لا نراها؛ بالأكسجين، إذن وما دام الأمر كذلك فليست هناك فراغات مفضية إلى اللاشيء؛ إطلاقا.

«خير الأمور يا فتى أوسطها» تذهب إلى مفهوم الاعتدال، والاعتدال يحتاج إلى كثير من الجهد، في ظل نفس تضغط بقوة الطبيعة البشرية، وبتجاذبات الأهواء، والطموحات، لتبقى متفردة، ومتميزة، وعلى الرغم من هذا الأفق المغري لصورته الاحتفالية الزاهية، إلا أن المسألة ليست بهذه البساطة، وإلا لوصل كل الناس إلى القمم، فهي تحتاج إلى كثير من المجاهدة، وهذه المجاهدة تقتضي التنازل، والرضى بشيء من الخسارة، فحمية الجري؛ كما هو معروف؛ تقدم قرابين من سعرات الحرارة حتى تصل إلى ذروة الحماس، ومراكمة الجري، ومن ثم تحقيق النتائج الأفضل، وهذا لا يخرج عن المعنى الذي يذهب إلى القول: أقل الأرباح يقابلها أقل الخسائر، والأرباح الكبيرة، تجر وراءها خسائر كبيرة، من يدرك هذه الحقيقة يكون كمن يعي مفهوم «مد رجولك على قد لحافك» ربما تكون هنا الخسارة متوقعة، وليست واقعة بالضرورة بعنصر المفاجأة، وعندما تكون على هذه الشاكلة يمكن تحجيم الخسائر، وإن لم يقابلها أرباح تذكر، وفي هذه الصورة نوع من التكيف الذي لا يصل إليه كثير من الناس، ربما يحكم هذا التكيف العمر المنجز، وهو المفضي؛ غالبا؛ على خبرة عميقة في الحياة، وهذه الخبرة تحكمنا في كثير من المواقف فتقلل من خسارتنا، ولذا يعد التريث المشروع الآمن لتجاوز عنق الزجاجة الضيق، فما بين مسافتي عنق الزجاجة، تبقى غصة ليس يسيرا تجاوزها، وهنا تظهر قدرة المجاهدة.

وانعكاسا لمبدأ تجربة «الخطأ والصواب» فليست هناك محطة لم تقع في مطب الخسارة، ولم تشرئب لسطوة الربح، وما بين المحطة الآمنة ونقيضها ثمة فاصل دقيق، كما هو الحال ما بين الشجاعة والتهور، وبالتالي إن من يملك الشجاعة، يمكن أن يقع في اندفاعات التهور، ومن يستطيع أن يوازن بينهما فذلك الحكيم، «والحكمة ضالة المؤمن؛ أينما وجدها فهو أحق بها» وهذه المراوحة بينهما هي التي تذهب بالكثيرين إلى امتهان المغامرة تلو المغامرة، والمحاولات تلو الأخرى، ويقال في هذا الشأن أن ذلك من علامات النجاح عند هؤلاء وهؤلاء، لأن المكاسب لها صولات وجولات، ومن يريد أن يحققها لا بد له من هذه المآلات المعنوية أغلبها، حتى يتحقق له ما يطمح إليه، ربما تفقدنا العجلة الكثير من المكاسب، «المستعجل ماكل عيشه ني» والاستعجال هو؛ بلا شك؛ سباحة ضد التيار، كثيرا، ما تعيدنا للخلف مئات الكيلو مترات، لكن قد تكون هناك وسائل مساعدة يمكنها أن تدفع بنا نحو الأمام، ولو بتباطؤ ممل، ويبقى المحافظة على هذا التوازن هو الامتحان الأصعب لكثير من مشاريع حياتنا اليومية، مع صعوبة التوفيق بين توازنات الأشياء، فكثيرا ما نقع في مصيدة الخسارات المتتالية، والمشكلة هنا أكثر في أننا نستعذب النجاحات، ونرى فيها الغايات الكبرى التي تحققت، وكفى، ولا نضع اعتبار لخط رجعة؛ ربما يقودنا؛ إلى الإخفاقات والخسائر، ولأننا لسنا على استعداد لمآلات خط الرجعة هذا، فإنه من المحتمل أن تتراكم الخسارات أكثر، أو هكذا نستشعرها، مع أننا نعيش حالتي التضاد هذه بصورة مستمرة في كل أنشطتنا اليومية.

عندما نقود مركباتنا، ونرى فيها تلك المتانة، وتلك القوة، وتلك النظارة، نحسبها أن لا تخذلنا في المسافة الفاصلة بين نقطة الانطلاق، ونقطة الوصول، فشعورنا هذا يلهينا عن التوقف للتأكد من بعض النواقص المتوقعة أن تعرقل مسيرتنا بالصورة الصحيحة والسليمة، كفحص الإطارات، أو مستوى الماء في ملطف الحرارة، أو مستوى الغاز في جهاز التكييف، ولذلك عندما نقع في مأزق أحد معززات القوة في المركبة، تصبح المركبة بهيلمانها ضعيفة، وربما تمر علينا مركبة بسيطة أو دراجة نارية، أو حتى دراجة هوائية حيث تكون في ذلك الوقت أفضل مائة مرة من مركبتنا الفارهة القوية، تلك إذن معادلة بين الخطأ والصواب في التعامل مع المركبة، ومع أن المركبة ليس لها ذنب فيما حصل، فيبقى ذنب العقلاء هو الذي يحتكم على أساسه مستوى تبرير الخطأ.

يمكن الإشارة هنا أيضا في ختام هذه المناقشة إلى حالات التنطع، التي عليها البعض؛ كثيرا ما تؤول إلى خسارات المواقف، ولا تعطي نفس المكاسب، مع أن استجلاب المكاسب ليس بينها وبين تحققها مسافة واسعة، ولذلك فالمتنطعون هم الخاسرون على امتداد الأفق، والمسألة لا تحتاج إلى كثير من الجهد الذهني لتفسيرها، فهي واقعة، ومعايشة، ولن يخلو مجتمع ما، من مجموعة من المتنطعين في المواقف، والآراء، وهم المعرضون؛ بصورة دائمة إلى جلب الخسارات لأنفسهم، ويبقى الفهم أن «أعلى من الخسارة، وأقل من الربح» معادلة تدخل فيها الكثير من المعززات، والكثير من التجاذبات، والكثير من الاستحقاقات، وهي معادلة يعيشها الجميع بلا استثناء، ولكن لا ينجح فيها الكثيرون من الناس، والمسألة ليست لها علاقة بالانتماء الجغرافي، أو الاجتماعي، أو المستوى الثقافي، أو عمر التجربة؛ إنما تدخل هذه العوامل في الدفع نحو النجاح «الربح» أو التقليل من الإخفاق «الخسارة».