أفكار وآراء

«تصفير الأزمات».. عن التجربة العمانية أتحدث

14 نوفمبر 2020
14 نوفمبر 2020

د. عبدالعاطي محمد -

يحتفل العمانيون بمرور خمسين عاما على النهضة المباركة، وسط مشاعر تفيض بالسعادة والرضا والثقة بالنفس عن كل ما تحقق من إنجازات على الصعيد الداخلي وعن كل ما أكد المكانة المرموقة على الصعيد الخارجي، وذلك في زمن قصير في عمر أية مسيرة وطنية تنشد الرفاهية والاستقرار لشعبها. ولا شك أن لهذا النجاح الفريد مفاتيحه العديدة التي تفسره وتقف على أسبابه، ومع التأكيد على أهميتها جميعها، إلا أن العمل الدؤوب على «تصفير الأزمات» كان ولا يزال مفتاحا كاشفا لفهم النجاح المطرد لتجربة النهضة العمانية.

وليكن واضحا من البداية أننا نتحدث عن أزمات لا عن مشكلات، والفرق بينهما كبير. فمن المؤكد أن كل الشعوب والدول تتعرض صباح مساء لمشكلات تبعث على القلق وتسعى سريعا إلى حلها. بمعنى أنه يكون هناك هدف أو مجموعة أهداف مطلوب تحقيقها ولكنها تواجه عقبات فيجرى العمل على تعديل سقف هذه الأهداف أو تأجيلها، وبالمقابل يجرى العمل على تذليل العقبات أو معظمها، وهكذا يتم الوصول إلى حل وتجاوز المشكلة. وذلك من طبائع الحياة والتفاعل الإنساني معها. ولكن يحدث أن تتعقد طبيعة المشكلة وتزداد حدتها ويبتعد الأمل عن إمكانية حلها، وغالبا ما يتزامن مع هذا أن يصبح اللجوء إلى القوة واردا لحسم حالة الجمود. هنا يصبح الحديث عن أزمة لا عن مشكلة.

وبالإشارة إلى التجربة العمانية، لم يكن الأمر سهلا بكل تأكيد، فما أصعب من أن يبدأ العمل الوطني من تحت الصفر، وأن ينطلق من مرحلة إلى أخرى صاعدا إلى بناء دولة عصرية يشهد بمعالمها القاصي والداني على الصعيد الخارجي قبل الداخلي. ولم تكن الصعوبة فقط في ضعف أو ندرة الإمكانيات المطلوبة للانطلاق نحو تحقيق النهضة، وإنما أيضا في العقبات التي تفرزها البيئة الخارجية سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي، والتي ما كان بالإمكان غض الطرف عنها أو عدم التأثر بكل ما تدفع به من تهديدات أو تحديات لمسيرة العمل الوطني. ومن يعود إلى التاريخ على مدى الخمسين عاما ليقف على التطورات الساخنة التي مر بها العالم عموما والمنطقة الخليجية والعربية خصوصا، يدرك أن الأزمات كانت حاضرة من كل صوب وحدب، وأنها كانت كافية لإحباط مشروع النهضة العمانية بحكم العلاقة الوثيقة بين ما هو داخلي وما هو خارجي سواء بالنسبة لعمان أو لغيرها من الدول والشعوب الساعية إلى تحقيق الاستقلال الوطني والرفاهية والأمن والاستقرار. ومع كل تطور أو حدث جلل وفارق بين التقدم إلى الأمام أو الرجوع إلى الخلف، ومع أهداف وظروف كل مرحلة من مراحل التنمية، كانت الأزمات حاضرة بقوة، وكان القرار هو تصفير كل أزمة أولا بأول، بمعنى أن ينعدم تأثيرها سريعا. ولم تكن القدرة على تصفير الأزمات أمر هينا بالمرة، وربما كانت دربا من دروب الخيال، ولكنها تحققت بالفعل، وكانت من أقوى عوامل نجاح التجربة العمانية.

قبل أن نكشف عن الأسباب، هناك عاملان مؤثران في فهم قدرة التجربة العمانية على «تصفير الأزمات»، فمن ناحية أولى هناك الوضع الاستراتيجي لعمان من حيث التاريخ والحضارة وكلاهما سجل حضورا قويا للتفاعل مع الشعوب الأخرى داخل البيئة الخليجية والعربية والإسلامية ووصل إلى شرق إفريقيا وامتد إلى الصين وشرق أسيا، وكذلك تأسست علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة قبل زمن طويل للغاية وقبل أن يتأسس أي شكل من أشكال النظام الدولي. ومن جهة أخرى فإن عمان دولة كبيرة المساحة ممتدة على طول الساحل الخليجي وتشرف على مضيق هرمز الاستراتيجي المؤثر في حركة الملاحة الدولية بمنطقة هي من أغنى مناطق العالم بحكم ثرواتها النفطية. يعنى هذا وذاك أن عمان حاضرة في قلب الأحداث، ولا تملك رفاهية العزلة تجنبا للمشاكل أو التهديدات أيا كان نوعها، وإنما يتحتم عليها دوما أن تتفاعل إيجابيا مع كل التطورات. والمنطقي بل والطبيعي أن تأتى التطورات بما هو مريح وبما هو مقلق. وهنا تجلت القدرة على ألا تتحول المشكلات الناجمة عن كل ما هو مقلق إلى أزمة تعوق انطلاقة عمان نحو النهضة. ومن ناحية ثانية فإن المتابع لتاريخ المنطقة القريب نسبيا لا يصعب عليه التعرف على عديد المخاطر التي تعرضت لها وهددت أمنها واستقرارها، والقائمة تطول وليس هنا مقام تفصيلها، ويكفى الإشارة إلى عديد الحروب التي شهدتها المنطقة مثل حرب ناقلات النفط في ثمانينيات القرن الماضي والحرب العراقية الإيرانية وحرب تحرير الكويت من الغزو العراقي، هذا وصولا إلى المشهد المتوتر الناجم عن عدم الاستقرار في العراق الجديد واليمن وسوريا وليبيا. ولا شك أن كل هذه المخاطر كان من المنطقي أن تسبب أزمات لعمان مثلما حدث مع غيرها حيث من الصعوبة بمكان الإفلات من تداعياتها بحكم أنه ما من دولة إلا وتتأثر بما يجري خارجها، ولكن ما حدث هو أن عمان أفلتت من كل هذه المخاطر لأنها نجحت في تصفير ما نتج عنها من أزمات.

نعود إلى الوقوف عند أسباب نجاح التجربة العمانية في «تصفير الأزمات» التي واجهتها، وللحق فهي عديدة ولا يتسع المجال لسردها كلها، ولكن هناك أسباب واضحة وضوح الشمس لأنها سهلة التدليل عليها من حيث الواقع. فمن المؤكد أن دور القيادة السياسية يتصدر هذه الأسباب. وهنا لابد من التذكير بالدور الكبير الذي قام به السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- حيث أسس لعلاقة قوية بين الشعب والقيادة السياسية قائمة على الحب والثقة والشفافية والصراحة والتلاحم الوطني والمشاركة في اتخاذ القرار، ولنا أن نتذكر جولاته في الولايات كل عام حيث كان يجوب البلاد من جهاتها الأربع على مدى شهر أو أكثر متواصل الأيام ويلتقي بأبناء شعبه ويناقش معهم أحوالهم ومطالبهم، وكانت هذه الجولات واحدة من الآليات التي تم العمل بها منذ بداية النهضة المباركة لتحقيق الاستقرار الداخلي. وقد استمر جلالة السلطان المعظم هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- على نفس النهج أي الحفاظ على الاستقرار الداخلي وقام بتطوير الهيكل الإداري للدولة وشرع في تفعيل رؤية عمان 2040 وتحقيق الإصلاح الاقتصادي، مما يعزز بناء جبهة داخلية متماسكة تصد كل أزمات طارئة أو تؤدى إلى تصفيرها. ويقينا فإن الأساس في التصدي لأية أزمات هو إيجاد قاعدة اجتماعية صلبة تتفهم وتستوعب التحديات وتتوحد مع القيادة السياسية عن اقتناع وثقة في تجاوز كل التداعيات السلبية لأية مشكلة كبرى بما لا يسمح بتحولها إلى أزمة. وبالمقابل فإن تجارب الأمم تؤكد أنها تتعرض لأزمات تعرقل طريقها في النمو والاستقرار عندما يسهل اختراقها من الداخل، وذلك بضرب وحدتها الداخلية، وهو ما لم تقع التجربة العمانية في شراكه.

وقد انتهجت عمان سياسة واضحة من اليوم الأول للنهضة هي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، أي احترام سيادتهم ورؤيتهم للأحداث. ولم يكن ذلك لونا من ألوان الخطاب النظري، وإنما وجد ترجمته عمليا في كل وقت ومع كل حدث كبير في المنطقة. ولا شك أن الحفاظ على مبدأ كهذا وعلى مدى مسيرة طويلة من الزمن برغم شدة الضغوط والأزمات الإقليمية والعالمية، كان من العلامات الفريدة في توجهات السياسة العمانية بشهادة الجميع. الإصرار على هذا المبدأ والتدليل عليه عمليا جنَّب عمان الوقوع في شباك عديد الأزمات التي لحقت بالمنطقة ما أكثرها. ولكنه أفاد البلاد في الوقت نفسه إفادة كبيرة من حيث إنه جعلها دائما بابا يطرقه الجميع كلما هبت رياح أزمة ما بين دول أخرى لطلب المساعدة في إيجاد حل مرضى للأطراف المتخاصمة، وقد عزز هذا من المكانة الدولية لعمان. وقدمت التجربة العمانية في هذا الإطار درسا مفيدا للغاية لكل من يتعرض لأزمة جوهره أن باب الحوار لابد أن يبقى مفتوحا بين أي أطراف دولية متخاصمة ومعرضة للانزلاق إلى أزمة قد تفضي إلى مواجهة مسلحة. فمهما تعقدت الأمور فإن أحدا لا يستطيع الادعاء بأن القطيعة هي ديدن العلاقة بين الشعوب وإنما التعايش والحوار هو الأصل انطلاقا من انحياز عمان للإنسانية التي من أهم خصائصها التعايش والوفاق، ولذلك انتهجت أيضا مبدأ السلام في العلاقات بين الشعوب والدول. أي أصبحت رسالة عمان للعالم رسالة سلام لا مواجهة.

وارتباطا بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، انتهجت عمان سياسة النأي بالنفس عن المحاور، أي الانحياز سياسيا إلى طرف أو أطراف بعينها، ومن ثم التطابق مع مواقفها دائما بل والدفاع عنها إلى حد الاستعداد لتوظيف إمكانياتها الاقتصادية والعسكرية لها. ويحدث ذلك بشكل غير مباشر ولذا يختلف الأمر عما يعرف بالتحالف حيث يكون الانحياز صريحا أو مباشرا. وقد ساعد الابتعاد عن المحاور في تعزيز استقلالية القرار العماني أو المواقف العمانية. وإضافة لما يعكسه ذلك من دليل قوى على الاعتزاز الوطني، فإنه يتيح حرية الحركة للدبلوماسية العمانية لأداء دورها بنجاح في دعم التنمية في الداخل وتعظيم المكانة الدولية. وأصبح من الطبيعي في هذا الإطار أن نجد عمان تتمتع بعلاقات طيبة واسعة النطاق مع الجميع على اختلاف توجهاتهم السياسية، وتحظى باحترامهم وتقديرهم.