أفكار وآراء

لماذا الاختلاف حول الديمقراطية؟

11 نوفمبر 2020
11 نوفمبر 2020

عبد الله العليان -

لم ينتهِ الحديث منذ قرن أو يزيد، حول قضية وسيلة الديمقراطية المعاصرة، من حيث الانتخاب والاقتراع والتصويت على قيام المجالس النيابية وغيرها من الوسائل، ولا تزال هذه المسألة تلاقي الاختلاف والتعدد والتنوع حولها من اتجاهات فكرية وسياسية وفلسفية، وإن كانت بصورة أقل من نصف قرن أو يزيد في الوطن العربي لأسباب عدة، فالنقاشات والرؤى التي ما برحت تطرح دائمًا، حول مدى قبول الإسلام للديمقراطية ومحدداتها، أو ماذا يأخذ من هذه الوسيلة، وماذا ندع؟

ولا شك أن مصطلح الديمقراطية، نشأ في التجربة الغربية، وانطلق منها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولذلك نجد البعض يتوجس من هذا المصطلح، لكونها خارج السياق الإسلامي، وأيضا يقول هذا الطرف: إن الشورى لدينا ما يعرضنا عن مصطلح الديمقراطية، والبعض الآخر يتفق مع هذا الرأي والبعض الآخر يخالفه، ويرى أنه إذا كانت الشورى، جرى تجديد مضامينها من حيث لوائحها باتخاذ الانتخاب والاقتراع والتصويت من خلال مجالس الشورى، وليس الإبقاء على ما كانت عليه الاجتهادات السابقة، التي كان يفترض أن تُجدد الرؤى الشوروية، مع التغيرات والتحولات في حياة الأمم والحضارات، ولا شك أن هذا مبدأ إسلامي في طرح الاجتهاد والتجديد، خاصة أن بعض الفقهاء الأقدمين، قالوا إن الشورى معلمة وليس ملزمة والبعض الآخر يخالف الرأي أيضًا، ويرى كيف يطلب الحاكم المشورة، وعندما تقدم له لا تكون ملزمة بحسب البعض من الفقهاء، ومن هذه المنطقات يرى هؤلاء لماذا تطلب الشورى ولا يجري الالتزام بها، خاصة أن الآية القرآنية جاءت آمرة في ذلك: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)، ولذلك يعد العزم في اتخاذ هذا القرار، ثمرة من ثمرات الشورى، بحسب منطوق الآية الكريمة، وليس العكس، ويرى د. محمد عمارة في كتابه (معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام)، أن: «إذا كان البعض يضع الشورى بديلًا «للديمقراطية»، فإن النظرة الإسلامية الموضوعية والفاحصة للعلاقة بين الشورى والديمقراطية تنفي تناقضهما بإطلاق.. أو اتفاقهما بإطلاق ـ وتزكي التمييز بينهما، على النحو الذي يكتشف مساحة الاتفاق ومساحة الاختلاف بينهما».

ويضيف د. محمد عمارة عن هذا الجانب المهم بصورة أوضح، ويرى أن الأمر في هذا الجانب، يعتبر ضمن الاجتهادات البشرية في الفكر الإسلامي، وتخضع للظروف والمتغيرات، ولا تمس القطعيات من النصوص التي لا تحتمل التأويل، وهناك بين الشورى والديمقراطية، بعض الاختلاف والاتفاق: «فمن حيث الآليات والسبل والنظم التي تحقق المقاصد والغايات من كل من الديمقراطية والشورى، فإنها تجارب وخيرات إنسانية، ليس فيها ثوابت مقدسة.. عرفت التطور في التجارب الديمقراطية، وتطورها وارد في تجارب الشورى الإسلامية، وفق الزمان والمكان والملابسات.. والخبرة التي حققتها تجارب الديمقراطية في تطور الحضارة الغربية، التي أفرزت النظام النيابي، والتمثيل عبر الانتخابات.. هي تجربة غنية وثروة إنسانية لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنها تطوير لما عرفته حضارتنا الإسلامية، مبكرًا، من حيث آليات البيعة وتجاربها».

ولذلك يبقى الأمر مجالا محتملًا تعدد بين الاختلاف والاتفاق حول تنافر أو تطابق بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية حول الديمقراطية، إنما البعض يرى أن الدول العربية والإسلامية، في أغلبها، اختارت وسيلة الديمقراطية، سواء جاء التطبيق دقيقًا أو مزورًا عند الأخذ بهذه الطريقة، ومنذ رحيل الاستعمار عن البلاد العربية، وجاءت المجالس النيابية، حصلت تغييرات كثيرة في فترة الدولة القُطرية التي تراجعت عن وسيلة الديمقراطية بالصورة الصحيحة، وأصبحت واقعًا في هذه المؤسسات من حيث الانتخاب والتصويت لكن دون الفاعلية الإيجابية، كما أشرنا إلى ذلك آنفًا.

ولا شك أن الحكمة والمعرفة تطلب لذاتها، عندما لا تصطدم بالقيم الأساسية للتشريعات والقوانين التي لا تحتمل التغيير، ومن هنا فإن وسيلة الاجتهاد في الفكر الإسلامي، تعتبر مجالًا رحبًا، فيما لا نص فيه، وهذا كتب عنه الكثير من العلماء والمفكرين، خاصة مجال المقاصد الشرعية، كما أن التجديد يعد أحد المطالب لتجديد بعض المضامين، أو التي دخل عليها ما يجانب الحقائق الصحيحة في الفكر الإسلامي، ويرى الباحث المغربي سعد الدين العثماني إن: «الفقه السياسي الإسلامي ليس متوقفًا ولا جامدًا. إنه يتحرك ويبدع.. والتجديد في الدين (دين الأمة) فرض لازم، وشرط أساس لتطبيق أمثل لمبادئ الشرع واستجابة لحاجات الواقع. وقد علق بالشورى عبر القرون الطويلة من فهوم البشر واجتهاداتهم ما هو مرتبط بأعرافهم وظروفهم وواقعهم السياسي والاجتماعي والعلمي... ومن البدهي أن يكون من اللازم شرعًا وعقلًا وواقعًا تغيير ما لا ينسجم مع حاجة وواقع البشر اليوم».

لكن البعض يعتبر هذه الوسيلة، ضمن الاختراق الفكري للوطن العربي، وهؤلاء للأسف في رأيي لا يفرقون بين الوسيلة التي تتبعها الديمقراطية، كالانتخاب والتصويت على من يجري اختياره للمجالس النيابية، وبين الاختراق الفكري، الذي يخالف القيم والمنطلقات المستقرة للمسلمين. بل إن بعضهم يحكم على وسيلة الديمقراطية بالكفر، لمجرد أن أصولها غربية، وهذا لاشك أنها نظرة مغالية في صف الديمقراطية.. وينتقد الكاتب محمد شاكر الشريف، منذ سنوات في كتابه (حقيقة الديمقراطية)، ولا نتفق معه فيما قال، دون أن يتأمل الفارق بين ما هو جانب إجرائي في الديمقراطية، وبين ما هو يتصل بالقيم والنظم الأخرى المتصلة بالقيم، إذ إن ما كل ما في الغرب في المسائل الدستورية، سيكون اقتباسه إلزامًا للآخرين، فلا يمكن أن يتم انتقاله مع هذه الوسيلة أقول هذا لأن الكاتب في نقده للديمقراطية يورد الآتي: «إن لفظ (مسلم) ولفظ (ديمقراطي) لا يجتمعان في حق شخص واحد أبدًا، وإنما يقبل ويستسيغ هذين الوصفين المتناقضين في حق شخص واحد أولئك الذين يجهلون حقيقة دين الإسلام القائم على توحيد الله الخالص ونفي الشريك، أو أولئك الذين يجهلون حقيقة الديمقراطية بما اشتملت عليه من الكفر العظيم والشرك بالله الواحد القهار».

وسرد الكاتب في كثير من فصول هذا الكتاب، الجوانب السلبية للديمقراطية ومفاهيمها المغايرة للدين، وأصر على أن الديمقراطية كفر وإلحاد وشرك بالله عز وجل مضيفا في فقرة أخرى: «وحتى نزيل كل ما يعلق بنفس المسلم من هذا المصطلح نظرا لطول ترديده وكثرة سماعه له.. فإننا سنكتب بدلا من كلمة (ديمقراطية ) الكلمة المرادفة لها بمقياس الإسلام - هكذا - ألا وهي: حكم الطاغوت أو حكم الجاهلية»؟!

وهذا القول لا شك يختلف العديد من العلماء والمفكرين، لاختزاله فكرة الديمقراطية، في مضامين أخرى، بعيدة عن هذا المصطلح، وربما هذا يجري في الغرب ـ وهذا ربما ما يعتقدونه في دساتيرهم، لكن هذا الرؤية الإسلامية، لا يمكن قبولها، ويعلق العلامة د. يوسف القرضاوي في كتابه (من فقه الدولة في الإسلام)، على هذه الأقوال والتهم لهذا الوسيلة فيقول: «الغريب بأن بعض الناس يحكم على الديمقراطية بأنها منكر صراح أو كفر بواح وهو لم يعرفها معرفة جيدة تنفذ إلى جوهرها وتخلص إلى لبابها بغض النظر عن الصورة والعنوان. ومن القواعد المقررة لدى علمائنا السابقين: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فمن يحكم على شيء يجهله فحكمه خاطئ وإن صادف الصواب اعتباطا لأنها رمية من غير رام، ولهذا ثبت في الحديث أن القاضي الذي يقضي على جهل في النار كالذي عرف الحق وقضى بغيره».

ويزيد د. القرضاوي توضيحًا لهذه الوسيلة ومنطلقاتها التي قد يستفاد منها في غير مجتمعاتها، من حيث الطرق والوسائل عند الأخذ ما يناسبنا منها فيقول: «جوهر الديمقراطية ـ بعيدًا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية ـ ألا يساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها.. هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقية التي وجدت البشرية لها صيغا وأساليب علمية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام وترجيح الأكثرية.. الخ فهل الديمقراطية في جوهرها تنافي الإسلام؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذه الدعوى؟».

ولذلك أرى أن الوسيلة، تخضع لواقع كل أمة من الأمم، ولها الحق أن تأخذ ما تراه يناسب قيمها الأساسية، ويتم إقصاء ما يخالف ذلك، فـ (الحكمة ـ كما جاء في الحديث النبوي ـ ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها).