٣٤٥٦٧ 2.psdصض
٣٤٥٦٧ 2.psdصض
أعمدة

رحلة من فاس إلى مسقط في زمن كورونا

11 نوفمبر 2020
11 نوفمبر 2020

محمود الرحبي

حتى أستطيع أن أحلّ باكرا بالمطار يكون علي أن أقضي ليلة في الدار البيضاء، قادمًا من مدينة فاس. اعتدتُ النزول في فندق "سالم"، الذي كان ضمن عماله أفراد عائلة إفريقية لطيفة تتحدث السواحلية. وقد استأجروا قسمًا في الفندق وحوّلوه إلى "مطعم إفريقي". أحادثهم أحيانا بما أرطن به من كلمات كانت كلّ عُدّتي "الهزيلة" التي احتفظت بها من أهلنا في زنجبار وتنزانيا والشرق الإفريقي عموما. هنا يجب أن أفتح قوسًا لأقول أن أجدادنا ضمن أهم ما أضافوه في القارة الإفريقية، ترصيع معجم اللغة السواحلية بمفردات عربية؛ إلى الدرجة التي يمكن اعتبار الفصحى-بدون مبالغة- بمثابة مرجع تقعيدي للسواحلية، وفي ذلك دلالة انفتاح وتعايش.

وقد استأنس بي أفراد العائلة إلى درجة أن أحدهم صار حين يراني يبادرني بعبارة "خباري مزوري"، فأرد عليه "جامبو رفيكانو"؛ ثم تتوارد في ذهني كلمات لا يربطها سياق ثابت، إضافة إلى الأعداد السواحلية التي لا أعرف متى وأين حفظتها: "موجا، مبيلي، تاتو، إنّا..". وبهذه الطريقة أضمن استمرار الحديث مع أفراد هذه العائلة اللطيفة، والذي أحاول خلاله، قدْر الإمكان، تعطيل الصمت ولغة الإشارة، وتنشيط حقول اللسان البشري وعروقه المشتركة.

ولكن بسبب اقتراح الأصدقاء، فقد اخترت فندق "المعمورة"، الذي يقع بمحاذاة "درب عمر"، السوق المعروف، الذي اكتشفتُ أنه قد ذُكر حتى في بعض قصص وروايات الأصدقاء المغاربة. وهو سوق حيوي، يمكن أن يذكّر بميدان العتبة بالقاهرة. وقبل صباح السفر بليلة، جمعتني جلسة عشاء بمجموعة أصدقاء من مثقفي الدار البيضاء: الطيب العدلوني المحامي المثقف، الذي له نصيب وافر من اسمه ولقبه، والشاعر المخضرم محمد عنيبة الحمري، والصديقين المبدعين عبد العزيز أمزيان وبوجمعة أشفري، والأكاديمي عادل حدجامي، الذي روّض "مفاهيم" جيل دولوز في كتاب ملفت أصدرته "دار توبقال" بعنوان "فلسفة جيل دولوز"، فاز بفضله بجائزتين في العام نفسه: "جائزة المغرب الكبير" و"جائزة الشيخ زايد". والجميل في كل هذا أن السي عنيبة، الذي أشعر أنه يخفي في صدره أكثر من قلب واحد؛ أصرّ، رغم أنه يقضي حالة نقاهة بعد إجرائه عملية جراحية، على أن يكون في الصباح المبكر أمام باب الفندق لنذهب سوية بسيارته إلى المطار.

سلوك راق يتميز به المغاربة، في حياة نلحظ كيف صارت تجنح نحو الاغتراب والفردانية. والحقيقة تقال إن المغاربة لطالما ذكّروا، بسبب سلوكهم الراقي، أصدقاءهم المشارقة بحقيقة أنّ وجودنا على البسيطة ما زال مفعَمًا بأصالة ومحبّة و"بما يستحقّ الحياة"، بعبارة الراحل درويش. ففي ثنايا عرفهم: ممنوع أن تكون غريبًا في المغرب طالما أن ثمّة أصدقاء لك هناك من هذا الطراز، ومنهم مثقفو الدار البيضاء على الخصوص. فهم بطبعهم، أنيقون جدا، بقلوب صافية تسَعُ العالم محبةً وودّا. ورغم أن الصديق والقاص المتميز أنيس الرافعي اعتذر عن الحضور لسبب طارئ، فقد كانت ظلاله الوارفة حاضرة بيننا.

حين كنت في فاس، وبسبب "حصار" كورونا، لم أجد وسيلة للسفر، إذ لم تكن هناك رحلات جوية. وأمام ذلك استحال موضوع سفري إلى هاجس حقيقي، رغم أن في حوزتي تذكرةَ عودة على متن رحلة تابعة للخطوط القطرية، كنت قد اقتنيتها قبل "زمن كورونا"، وكم كنت محظوظا بذلك، لأن شحّ التذاكر والمقاعد جعل أوراق التذاكر تباع بسعر الذهب، إذا وجدت أصلا مقعدا شاغرا وطائرة تطير.. ويجب هنا أن أذكر فضل الصديق أيوب مليجي، الذي كان بدوره يمتلك ورقة للعودة إلى مسقط حيث يعمل مكتبيا في "لوتس"، ولأنه يعيش في الدار البيضاء، موطن أمهات شركات الطيران، بخلاف فاس، فقد تكفّل بأن يبحث عن مقعدين، واحد لي وآخر له، رغم أن تذكرته في طائرة مختلفة عن طائرتي، لم يكن بحثا هيّنا، وكان الانتظار طويلا، ناهيك عن الإجراءات الكثيرة المتعلقة بالفحص واستخراج تصريح للتنقل بين المدن في وقت محدد.

وأتذكر أنه كان علي، من أجل استخراج ورقة العبور، الوقوف في طابور صباحي، ثم العودة بعد الظهيرة لاستكمال الانتظار في باشوية حي "بنسودة". وطبعا، إلى جانب الاحتياطات الواجب مراعاتها بسبب تفشي الوباء، الذي ما فتئ ينتقل بين الناس بسرعة مخيفة. في الأخير، تم الحجز، ولكنْ ما لبث أن أُلغي -وإلى أجَل غير مسمّى- قبل يومين فقط من موعد السفر، لتعود دورة الانتظار إلى نقطة البداية، لكنْ، فجأة، زفّ لي أيوب خبر رحلة قريبة على متن الطيران القطري، يجب أن أستعدّ إذن، لكنْ دون أن استبعد احتمال تأجيل آخر.

وهكذا بدأتُ كل الإجراءات من جديد: فحوص أخرى واستخراج تصريح آخر للتنقل بين المدن وغير ذلك. وفي الحقيبة لم يكن ثمة سوى الكتب؛ كتب كثيرة اقتنيتها من دورات معرض الدار البيضاء لم أقرأ معظمها بعدُ؛ سأحملها معي إلى مسقط، هكذا كنت أمنّي النفس، ولكنْ اكتشفت أني لن استطيع أن أحمل سوى ربع مقتنياتي منها، خاصة بعد أن حُمِّلتُ بقناني زيت زيتون وحزَم "كرموس" هدايا لأمي .

وكان من حسن حظي أن أخي أحمد، قبل أن يغادر إلى موسكو، ترك مكتبته كاملة في البيت؛ مكتبة لا يستهان بكنوزها، لا سيما من الترجمات بلغة بوشكين، التي يتقنها، إلى جانب ما تركت زوجته، فكتوريا، من روايات عربية وكتب في التراث العماني كانت تقرؤها، والتي اكتشفتُ بعضها للمرة الأولى!..

كانت فاس الأندلسية، بأزقتها وظلالها، بمدينتيها القديمة والجديدة، وبمقاهيها الأنيقة، قد رسخت في الكيان وتجذّرت في شعاب الذاكرة، ولم يكن ليعوضها سوى شواطئ مسقط.. ولكن الشواطئ مغلقة بسبب الوباء؛ فأين المفرّ؟! قبل ذلك، طلب مني "احتجاز نفسي" أسبوعين في غرفة.. لم أستطع حتى احتضان أمي، التي كنت قد اشتقت إليها كثيرا.. لكنْ منعني من معانقتها أن ذلك سيضرّ بها، وربما يؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه. ولم يكن أمامي من خيار سوى أن أبقى أسبوعين في غرفة "معزولة" عن العالم وعن أعزّ الحبايب..

وواجهني إشكال آخر في خلوتي "الكورونية" الثقيلة، فحتى القراءة تحتاج إلى حرية.. إذ لا يمكن أن تقرأ "بالإكراه"، رغم توفّر طبق متنوع من الكتب، وبينها كتبي الخاصة التي تركتها قبل سفري، وما أكثرها. ظلت مبعثرة في الغرفة، دون أن ألمسها تقريبا، إلى أن انتهى أخيرا أسبوعا "الحصار" وغادرت رأسا إلى المستشفى لإجراء فحص "البراءة" من اللعين كورونا.

في الصباح المبكر، كنت الوحيد الذي أمشي في الشوارع؛ فقد تعب الجسد من الجلوس الطويل، أياما بلياليها، سجينا بدون سجّان، غير هذا الفيروس الميكروسكوبي اللعين، وقانا الله منه ووقاكم أجمعين.