أفكار وآراء

ما بعد الدولة الريعية

10 نوفمبر 2020
10 نوفمبر 2020

علي بن داود اللواتي -

يشير أبو الاقتصاد الحديث آدم سميث في كتابه (ثروة الأمم) المنشور عام 1776م إلى ثلاثة طرق للحصول على دخل اقتصادي: الأجر، الربح، والريع (أو الإيجار)، ومن بين هذه الطرق الثلاث يصنّف الريع على أنه الأقل مخاطرة، فهو لا يتطلّب المشاركة في الإنتاج من حيث الأصل، إذ يكفي فيه استخدام ملكية الموارد، حيث يمكن للكيانات التي تمتلك موارد إقراضها لكسب الفائدة، أو تأجيرها لكسب دخل إيجار. على أنّ الفهم الحديث لمصطلح (الاقتصاد الريعي) تشكّل بداية بالتحليل الذي قام به حسين مهدوي للوضع الإيراني في عام 1970م، ثم تعمّق وتوسع أكثر من خلال دراسات كل من المصري حازم ببلاوي والإيطالي جياكومو لوسياني في عام 1987م.

يحدد حازم ببلاوي وزميله خصائص الاقتصاد الريعي كالتالي:

• اعتماد الاقتصاد على الريع الخارجي عوضًا عن الداخلي بنسبة كبيرة جدًا، وبالتالي عدم الحاجة إلى قطاعات إنتاجية محلية قوية.

• محدودية المشاركة الفعلية للسكان العاملين في توليد الريع، في حين أن الأغلبية تشارك فقط في توزيعه أو استهلاكه.

• الحكومة هي المتلقي الرئيسي للريع الخارجي.

يمكن فهم الوضع الحالي لدول الخليج عبر هذه الخصائص التي ظلت مسيطرة طوال حقبتها الحديثة، فقد اعتمدت هذه الدول على موردها الطبيعي المتمثل في الوقود الأحفوري كمصدر رئيسي للدخل الاقتصادي، وتوزيع ريعه على الأفراد والجماعات، من دون الحاجة إلى خلق سوق داخلية منتجة ومتحركة، لتكون الموازنات المالية لهذه الدول عبارة عن موازنات إنفاق بالدرجة الأولى، لا إنتاج. أو كما يقول ألفريد مارشال في كتابه «مبادئ الاقتصاد» اعتمدت دول الخليج على «الدخل المُكتسب عن طريق هبة الطبيعة». لم تكن هناك حاجة إلى فرض ضرائب على شعوب الخليج لأن ريع النفط والغاز كان كافيا، الأمر الذي ساعد على صياغة استقرار سياسي ملحوظ بانخفاض ضغط المطالب الشعبية. لقد شكّل اقتصاد الريع «عقلية ريعيّة» -كما يصفها ببلاوي- لدى الفرد الخليجي، الذي أصبح يرى أن السلطة السياسية ينبغي أن تُوفر له الوظيفة على طبق من ذهب، وينبغي أن تُحسن معيشته وتستمر في رفاهيته من دون أي مقابل. لم تخلق دول الخليج طوال الطريق الذي شقته نحو الحداثة مواطنين يمكنهم دفع ضرائب كما هو الحال في كثير من الدول الأخرى. والسؤال الطبيعي هنا هو لماذا سلكت دول الخليج هذا الطريق من الأساس؟

تذهب كثير من الدراسات التي تناولت منطقة الخليج والتغيرات التي طرأت عليه منذ منتصف القرن العشرين إلى أنّ العوامل الثقافية والاجتماعية المحلية لعبت دورًا رئيسيًا في تشكيل طبيعة ومركّب الدولة الحديثة، والتي لم تكن في جانبها السياسي خاصة إلا امتدادًا لوضع أو ثقافة قائمة من الأساس. لقد تطلب الأمر فرض سيطرة الدولة على جميع قطاعات الحياة، وقد تم تحقيق ذلك عن طريق امتلاك منابع الدخل والاقتصاد، أي ثروة النفط والغاز، وتوزيع ريعها.

لقد ساعدت الظروف التاريخية في تجنيب البلد صعوبات لا طائل منها، وهو يشق طريق البداية نحو نهضة حديثة شاملة، ولكنّ الاعتماد الشديد على ريع النفط وتقلبات أسعاره نتيجة المتغيرات الإقليمية والعالمية أطال من مدة التحديث المُرتقب، فرغم تأسيس المجلس الاستشاري للدولة في وقت مبكر نسبيا عام 1981م، و«الذي مثَّل يومها نقلة نوعية باتجاه فتح المجال لمشاركة شعبية أوسع»، ومن ثم تأسيس مجلس الشورى عام 1991م، ووضع النظام الأساسي للدولة عام 1996م، لم تتغير العقلية الريعية كثيرًا، ومن الواضح أن هذه العقلية لن تتغير بالمستوى المطلوب ما لم تتغير الأسباب التي ساعدت على تشكيلها. إذ تنبع أزمة الاقتصاد الريعي من مركزية القرار المعتمدة عليه، فإذا ما كانت هناك محاولة لتنويع مصادر الدخل تم خلق اضطراب اجتماعي وثقافي لم يتم الاتفاق عليه لا ضمنا ولا علانية، فتنويع مصادر الدخل لا يتطلب تسهيل الإجراءات والخدمات اللوجستية فحسب، بل يتطلب انفتاحًا وتغييرًا في الوعي الثقافي الفردي والجمعي تجاه سلطة القرار من جهة وتجاه المستثمر الأجنبي وقِيم العمل لديه من جهة أخرى. كذلك الحال مع اعتماد نظام الكفاءة في تسيير الأمور، حيث يصبح أمر التخلي عن شركة حكومية أفلست مثلًا أمرًا بالغ التعقيد والخطورة - حتى لو كان ذلك في حدود القانون المكتوب، والنتيجة الاستمرار في الدعم والإنفاق رغم تراكم الخسائر أو عدم الجدوى الاقتصادية.

السؤال في كل الأحوال هو: كيف يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة بشكل لا يُولّد مزيدًا من الصعوبات؟ لقد طُرح الحل في الواقع مرات عديدة وهو التخفيف المدروس من مركزية القرار بإبراز الصلاحيات الرقابية والتشريعية الممنوحة لمجلس الشورى، بحيث يؤدي دوره في وضع القوانين والخطط ومراقبة عمليات التنفيذ بصورة أكثر كفاءة وبصيغة قانونية ملزمة. أصبح هذا الإجراء ضروريًا اليوم ولا يبدو أنه صعب التحقق خاصة مع الانفتاح الأخير للحكومة وعرضها الشفاف لتفاصيل العجز المالي وأولويات الإنفاق والاستعداد لترشيده وفق خطة طموحة تتضمن مبادرات فرض ضرائب ورفع الدعم عن بعض الخدمات التي تحتاج إلى ضمانات شعبية لتحقيق العائد المُتوقع منها.