أفكار وآراء

المسلمون في أوروبا.. سيناريوهات النمو ومسارات الاندماج

09 نوفمبر 2020
09 نوفمبر 2020

د.صلاح أبونار -

جاءت الأحداث الإرهابية الأخيرة في باريس ومن بعدها أحداث فيينا الدامية، لتضع في بؤرة التفكير الجماعي مسألة المسلمين في أوروبا، من حيث وزنهم السكاني ومسارات الاندماج الاجتماعي والثقافي التي نجحوا في تحقيقها في محيطهم الحضاري والثقافي. فما هو وزنهم السكاني وبالتالي ثقلهم السسيولوجي بما يمثله من ضغوط محتملة على محيطهم الاجتماعي العام؟ وإلى أي حد وصلت مسارات اندماجهم في محيطهم الحضاري؟ وما هي العمليات التكاملية والتناقضية التي تشكل تلك المسارات؟

تتعدد مداخل الإجابة عن تلك التساؤلات، ومن أهمها مدخل رصد وتحليل وعى الجانبين لمسار العملية الإندماجية ولهوية الجانب الآخر ومدى استعداده للاندماج في تلك العملية.

وتمنحنا استطلاعات الرأي العام، التي قام بها مركز بيو الأمريكي للدراسات خلال السنوات الأربع الأخيرة على عينات واسعة من الأوربيين، الذين يمكن اعتبارهم نظريا ممثلين لأبناء البلاد الأصليين المسيحيين أي المجتمع الواسع المستقبل للوافدين الإسلاميين، مادة لمناقشة تلك العملية ومشكلاتها من منظور تلك الفئات، ولكن الأمر المؤكد أن تلك المادة لن تمنحنا قدرة كاملة على تحليل الوضع، وسنظل في حاجة إلى مواد أخرى تمنحنا مؤشرات رؤية الجانب الإسلامي لمسار ومشكلات العملية الاندماجية.

علينا في البداية أن نميز بين نمطين للوجود الإسلامي في أوروبا. سنجد الأول في صورة مجتمعات ترجع إلى قرون مضت، ويرتبط قيامها بعمليات وآليات التوسع العسكري العثماني في جنوب شرق ووسط أوروبا، التي أسفرت في النهاية عن إقامة مجتمعات تدين بنوع من الثقافة الإسلامية وتستوطن مناطق محددة.

مجتمعات شكلت مزيجا من امتداد الهجرات الاجتماعية الواسعة المصاحبة لتأسيس واستقرار السيطرة العثمانية، والتحول الثقافي لقطاعات من الأهالي الأصليين في سياق تفاعلهم مع الهياكل السياسية والاجتماعية لتلك السيطرة على مدى قرون.

وتحضرنا هنا نماذج المجتمعات الإسلامية في البانيا وكوسوفو والبوسنة والهرسك.

وسنجد النمط الثاني في مسلمي الهجرات الإسلامية الحديثة إلى الدول الأوروبية، والتي تشكلت في سياق آليات تاريخية واجتماعية حديثة ومختلفة.

من أول آلية دولة الرفاه الاجتماعي في الستينات والسبعينات التي فتحت الأبواب أمام هجرة كثيفة من جنوب المتوسط الإسلامي في سياق توسعها الاقتصادي وبحثها عن ايدي عاملة رخيصة، مرورًا بآلية الهجرة الدورية التي يمكن تمييزها عن آليات هجرات دولة الرفاه وآلية استقرار أجيال الهجرات واكتسابهم لحقوق المواطنة وتكاثرهم الطبيعي، وانتهاءً بآلية اللجوء السياسي ونجاح قطاعات من اللاجئين في الحصول على حق الإقامة الدائمة. والواقع أن دلالات استطلاعات بيو للرأي العام ترتبط بشكل أساسي بما دعوناه النمط الثاني للوجود الإسلامي في أوروبا.

في نوفمبر 2017 صدر عن مركز بيو دراسة ديموغرافية، استهدفت بناء توقعات لنمو السكان المسلمين في دول الاتحاد الأوروبي، عبر بناء ثلاثة سيناريوهات مستقبلية على مدى الفترة من 2016 إلى 2050. في تحليل ديموغرافي نشرة المركز في 6 أبريل 2017، جاء أن المسلمين في العالم اسرع أصحاب الديانات العالمية نموا في العدد، تبعًا لارتفاع معدلات الخصوبة لديهم وتدنى معدلات التحول عن العقيدة الإسلامية داخلهم بالمقارنة بالمسيحية مثلًا، وهكذا توقع أن يقفز عددهم من 1,8 بليون عام 2015 إلى 3 بلايين عام 2060، محققين معدلًا للنمو يصل إلى 70% مقابل معدل نمو سكاني عالمي 32% فقط، مع ارتفاع نصيبهم من سكان العالم من 24,1% إلى 31,1%.

وينبهنا واضعو التقرير إلى حدود تناولهم لديموغرافية مسلمي أوروبا. لا يتناول التقرير سوى أعضاء الاتحاد الأوروبي (28 دولة) ومعهم النرويج وسويسرا، وفي هذا النطاق لا يأخذ في حسابه سوى الدول التي يزيد عدد مسلميها عن مليون، ولا يدرج فيها اللاجئين السياسيين غير الحاصلين على إقامة قانونية دائمة. وفي تلك الحدود يذكر أن عدد مسلمي أوروبا عام 2016 وصل إلى 25,8 مليون فقط، وهي نسبة محدودة لا تتعدى 4,9% من سكان أوروبا، الأمر الذي يعنى صعوبة تشكيلهم تهديدًا لتجانس دول أوروبا الاجتماعي والحضاري. ولكن يبدو أن القفزة الديموغرافية الإسلامية التي تحققت فيما بين 2010 و2016 قد أثارت قدرا عاليا من القلق، دفع الباحثين لاستطلاع أمكانيات النمو الإسلامي الأوروبي في المستقبل.

في عام 2010 كان عدد مسلمي أوروبا 19,1 مليون فقط بنسبة 3,8 من السكان، وخلال 6 أعوام زادوا 2,9 مليون عبر زيادة المواليد ونقص الوفيات، و3,5 مليون عبر الهجرة.

وكان من شأن هذا أثارة المخاوف من النمو الإسلامي، فالهجرة عبر أشكالها النمطية غير المرتبطة بالأزمات الإقليمية ستظل عاملا فاعلا، ومعدل النمو الطبيعي الإسلامي المرتفع يصاحبه تراجع دائم في إعداد غير المسلمين وصل في تلك الفترة فقط إلى 1,7 مليون. وفي هذا السياق طرح التقرير ثلاثة سيناريوهات للنمو الإسلامي الأوروبي، جاعلا من أعداد 2016 خط الأساس.

يفترض الأول توقف دائم وتام لكل أشكال الهجرة الإسلامية، ووفقًا له سيرتفع عدد مسلمي أوروبا إلى 35,8 مليون عام 2050 من إجمالي 445,9 مليون، بفعل عوامل الزيادة الطبيعية فقط. والسيناريو الثاني هو الأكثر واقعية ويفترض علاوة على دور الزيادة الطبيعية، استمرارية الهجرة الإسلامية النمطية غير المرتبطة بالأزمات الخارجية السياسية، متوقعًا أن يرفع ذلك عدد المسلمين إلى 57,9 مليون من إجمالي 459,1 مليون.

ويتسم الثالث بالتطرف الشديد حيث يفترض استمرارية تدفق اللاجئين السياسيين بمعدلات 2014 – 2016 نفسها، مع مواصلة دور الزيادة الطبيعية والهجرة العادية غير السياسية، ووفقًا له سيرتفع عددهم إلى 75,6 مليون من إجمالي 463 مليون.

لدينا دراستان أنجزهما المركز عن رؤية عينات من الأوروبيين المسيحيين للمسلمين داخل بلادهم. صدرت الأولى في مايو 2016، وتناولت عينه من 11494 فردا موزعين على عشر دول أوروبية.

وصدرت الثانية في مايو 2018، وتناولت عينة من 24,999 موزعين على 13 بلدا. ما هي أهم مكونات تلك الرؤية؟

ثمة ضعف واضح في قوة المعرفة بالإسلام، حيث يقر 63% في الدراسة الثانية أنهم لا يعرفون الكثير أو لا يعرفون شيء على الإطلاق عن الإسلام، مقابل 27% يعرفون الكثير أو لديهم بعض المعرفة. ولكن ماذا عن المسلمين المقيمين داخل بلدانهم؟ في الدراسة الأولى لم يظهر من العينة تقبلا للمسلمين سوى 43% مقابل 16% لليهود، وأعرب 47% عن قناعته بعدم رغبة المسلمين في الاندماج في الثقافة الوطنية وأفاد 32% بالعكس، وقال 58%: إنهم يريدون تبني طريقة خاصة في الحياة تختلف عن طريقة الأغلبية وأفاد 32% بالعكس. وفيما يتعلق بمدى تأييد المسلمين للجماعات الإرهابية، ساد اتجاه لا يرى وجود تأييد.

فلقد تراوحت نسبة الموافقين على وجود تأييد للدولة الإسلامية بين 46% و12% فقط، بينما تراوحت نسبة الرافضين بين 85% 48%. ولكن عندما نراجع أرقام الدراسة الثانية 2018 سنجد المؤشرات أكثر إيجابية، ففيها سنجد صورة أكثر إيجابية للإسلام والمسلمين الأوروبيين.

في معرض تحديد رؤية العينة لمدى اتساق الإسلام مع قيم وثقافة البلاد الحديثة يسود الموقف الإيجابي، حيث قالت عينات 11 دولة: إنه لا يتناقض معها بنسب تتراوح بين 52% و44%، وأفادت بالعكس عينات الدول نفسها ولكن بنسب أقل تتراوح بين 44% و31%.

وسنجد ذات التحولات الإيجابية في الموقف من المسلمين، عبر 66% من العينة عن تقبله للمسلمين كأعضاء في أسرهم مقابل رفض 24% فقط، بينما عبر 83% عن تقبلهم للمسلمين كجيران ورفض 11% فقط. وفي معرض التعليق على عبارة «في داخلهم يريد المسلمون فرض قوانينهم الدينية على الآخرين»، كان صافي نسبة رافضي العبارة 65% والمتفقين معها 30%، إما عبارة «نتيجة لكثرة المسلمين الذين يعيشون هنا أصبحت أشعر بأني غريب في وطني»، فكان صافى نسبة الرافضين 76% والموافقين 23%. وسنلحظ موقفًا أكثر إيجابيا في رؤية العينة لمدى تأييد المسلمين للجماعات الإرهابية داخل أوروبا. قال 13% فقط: إن الجميع أو الكثير يؤيدونها، مقابل قول 49% بأن القليل جدًا أو لا أحد يؤيدنها.

ما الذي نخرج به من التحليل السابق؟ لا يشكل المسلمون في أوروبا ثقلًا ثقافيًا مغايرًا لمحيطهم الاجتماعي، يمكن أن يولد في الواقع والوعي الجمعي تهديدًا لوحدة المجتمع وتجانسه الحضاري والثقافي، ذلك أن نسبتهم العددية محدودة وستظل كذلك في ظل سيناريو نموهم الواقعي، ولا يمتلكون قوة اقتصادية واجتماعية كفيلة بمنحهم نفوذا يعوض هذا النقص العددي، والأخطر أنهم على المدى الزمني البعيد يسعون جادين للاندماج في مجتمعاتهم الجديدة على قاعدة خصوصيتهم الثقافية.

ومن جهة أخرى تبدو صورة الإسلام والمسلمين الغربيين في وعي أفراد مجتمعاتهم الغربية إيجابية بشكل أساسي، أو بعبارة أدق تشكل المكونات السلبية فيها نسبة أقل بشكل ملحوظ من نظيرتها الإيجابية. فهم لا يدركون المسلمين بوصفهم خطرا يهدد تجانس المجتمع وهويته، ولا يرون فيهم قوى جماعية مؤيدة أو حاضنة لتيارات العنف السياسي. ولكن هذه العملة الاندماجية التي تجري في سياق مجتمع تعددي، يتسم بتناقضات قوية وتصحبها حركة تقدم وتراجع. وعلة ذلك أنها تجرى بين هويات ثقافية متناقضة، وفي سياق عمليات إحياء ديني يعيد تغذية الهوية الإسلامية من جهة، وتحول أوروبي عام قومي وشعبوي مناهض للتعددية والليبرالية والحداثة وينزع لعداء الأقليات من جهة أخرى.