أفكار وآراء

هذا حصاد تمرد الثقافات الغربية على حوار الحضارات!

07 نوفمبر 2020
07 نوفمبر 2020

د. عبدالعاطي محمد -

استبشر العالم خيرا عندما تحولت الدعوى لحوار الحضارات إلى توجه والتزام عالمي وأصبح لها وجود مؤسسي يتبع الأمم المتحدة. فقد كان ذلك دليلا على أن العالم يرفض صراع الحضارات وينشد كل ما من شأنه رفاهية وسلام وأمن الجميع، أيا كانت اختلافاتهم الدينية أو العرقية أو اللغوية.

واستندت الدعوة إلى أن الحضارة في حد ذاتها كفيلة بتجاوز الخلافات وطريقا للتشارك والتفاعل الإيجابي بين بنى البشر. ولكن السنوات الأخيرة شهدت ما لم يكن متوقعا ولا مرغوبا حيث انفجرت نزعات للكراهية والانقسام والتطرف باتت تهدد مصير هذه الدعوة العالمية، مما دعا إلى طرح السؤال: أين الخطأ؟.

السبب المباشر لطرح هذا التساؤل هو المشهد المؤسف الذي تصدر اهتمامات مختلف وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي حول بعض الأحداث الفرنسية الدامية المرتبطة بمواقف رسمية وشعبية استفزازية إلى حد العدوانية تجاه المسلمين هناك والإسلام بوجه عام، وقد قابلها ردود فعل إرهابية من الجماعات المتطرفة المعتاد انتسابها على غير الحقيقة للإسلام. وأعاد المشهد الملتهب سياسيا وأمنيا ما حدث عام 2015 عندما تعرضت صحيفة شارلي إبدو المتهكمة دوما على الأديان والأنبياء لهجوم مسلح أودى وقتها بحياة الكثيرين، وكان ردا على نشرها رسوما كاريكاتورية مسيئة للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-. ومثل كل مرة جاءت ردود الأفعال سواء من داخل فرنسا أو أوروبا عموما أو من داخل العالمين العربي والإسلامي معبرة مجددا عن المشكلة الكبرى التي حاول الجميع تجنبها سابقا، وهى وجود حالة تربص بالإسلام والمسلمين تدفع في كل مرة إلى وضع العلاقة بين الإسلام والغرب على المحك. وما ضاعف من خطورة الأزمة هذه المرة أن الموقف الرسمي الفرنسي وتعاطف العديد من الدول الأوروبية الأخرى معه، قد تبنى وجهة النظر التي تناصر بوضوح لا لبس فيه رؤية اليمين المتشدد المعادي للإسلام والمسلمين. كما أن الأحداث هذه المرة، وإن كان سببها كالمعتاد في الماضي القريب التهكم على الإسلام والمسلمين والرد عليه كما السابق أيضا بهجمات إرهابية من إسلاميين متطرفين، قد شارك فيها فرنسيون غير مسلمين، فجاء العنف متبادلا، مما شكل تطورا لافتا في اتجاه تعميق الأزمة ودفع البلاد إلى نوع ما من الحروب الأهلية.

ومن جهة أخرى فإن المتابعة لكل ردود الأفعال لم تخل من تكرار المفردات والمبادئ التي ارتبطت بظهور حوار الحضارات، حيث المطالبة بوقف التطرف والكراهية والعنصرية والاحترام المتبادل للأديان، بموازاة التأكيد على حرية الرأي والتعبير. وفى هذا الصدد وعلى سبيل المثال لا الحصر، لأن ردود الأفعال تعددت، دعا ميجيل موراتينيوس الممثل الأعلى لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة إلى الاحترام المتبادل لكل الأديان والمعتقدات واستنكر التطرف والعنصرية وأدان الأحداث الإرهابية. ومن جانبه تعهد قادة الاتحاد الأوروبي بمواجهة الساعين إلى التحريض على الكراهية ونشرها والتضامن والوحدة مع فرنسا في وجه الهمجية والتعصب. وأما العالمين العربي والإسلامي فقد شهدا رسميا وشعبيا استنكارا وإدانة للإساءة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم (بما يعنى أن ذلك ممتد إلى الرد على موقف الرئيس الفرنسي نفسه عندما أصر على عدم التراجع عن الرسوم المسيئة)، كما شهدت إدانة واستنكارا للهجمات الإرهابية ورفضا لأية إشارة لربط فاعليها بالإسلام.

تكرار المشهد بتبايناته وبمفرداته يعني لأول وهلة أن حوار الحضارات لم يكن مجديا، فقد نشأ لمنع أو وقف كل ما من شأنه أن يفجر الصراعات بين الأمم على اختلاف انتماءاتها الدينية والحضارية والثقافية، وبدلا من ذلك بناء أرضية للمشتركات فيما بينها. وطالما تتكرر الأحداث المؤسفة ذاتها فهذا يعني أن حوار الحضارات لم ينجح في إزالة الأسباب التي تؤدى إليها. إلا أن النظرة المنصفة تقول غير ذلك، أي أنها تدرأ الاتهام لحوار الحضارات نظريا وعمليا، وتكشف عن العقبات التي لم تؤخذ مأخذ الجد، والأسباب المباشرة التي عطلت مساره أو أعاقته من التصدي لإمكانية تكرار العوامل التي تعيدنا إلى صراع الحضارات مجددا، وأيضا وهذا هو الجديد، تكشف إلى أي حد تصبح الثقافات عقبة كأداء في وجه إيجابية الحوار واستمرارية نتائجه المفيدة في رخاء وأمن وسلام كل الشعوب، مع أنه بحكم العلاقة الوثيقة بين الحضارة والثقافة، كان من المفترض أن تكون الثقافات عامل تدعيم للحوار الحضاري لا عامل لهدمه أو إفشاله.

ودون الدخول في تعريفات عديدة للمقصود بالحضارة والحوار والثقافة، فإن أيا منها ينتهى إلى حقيقة واحدة هي أنهم يعملون لصالح بعضهم البعض، أي هم كل متكامل، وأن فصل أو انشقاق أحدهم يعني فشل المنظومة كلها. فالحضارة جهد بشري مكثف على مدى زمني طويل من جانب قطاع عريض من الناس لجعل واقع الحياة على أرضهم أكثر رقيا في مختلف المجالات المادية والأخلاقية والإيمانية. والحوار هو جهد عقلي للإقناع بين طرفين أو أكثر بهدف تبني وجهة نظر طرف ما ومراجعة الطرف الآخر لوجهة نظره وتقديم التنازلات، وهو في جميع الأحوال يحترم التعددية والمصداقية والثقة المتبادلة. وبما أن تجارب الشعوب لبناء حضاراتها مختلفة اختلاف الظروف والمكان والزمان، فإن الحوار الحضاري واقعيا هو التفاعل بين الشعوب المختلفة ثقافيا وعرقيا ودينيا.. إلخ، مستندا إلى أن الوضع الحضاري ذاته من جانب كل طرف كفيل بإنجاحه، فهكذا تكون الحضارات دائما وإلا فإنه لا تصدق عليها القيم التي تجعلها تحظى بهذه التسمية، فضلا عن أن الحوار الحضاري في هذا الإطار يعد الآلية التي يمكن من خلالها حل المشكلات المفترض وقوعها بسبب التباينات بين كل حضارة وأخرى، وعادة ما تكون هذه المشكلات ذات الطبيعة العالمية أي التي يعاني منها الجميع، وحتما لابد وأن يتعاونوا في حلها. وأما الثقافة فهي الأفكار والقيم والعادات والتقاليد التي تشكل مجتمعة مع بعضها البعض نظرة جماعة أو شعب ما للحياة، ومن ضمن هذه النظرة الموقف من الغير وبناء العلاقات والمصالح والصداقات معه، وكذلك الموقف من الأحداث الكبرى، داخلية كانت أم خارجية. والثقافة بهذا المعنى جزء لا يتجزأ من أي حضارة كانت، ولذلك يقال دائما أن حوار الحضارات هو حوار بين الثقافات المختلفة والأديان (والمعتقدات). والمعنى هنا أن أي حوار حضاري لا يأخذ في الاعتبار احترام الثقافات بحكم أنها بطبيعتها خاصة جدا، من الصعب أن يحقق نجاحا. ولقد نشأ حوار الحضارات في البداية مستندا إلى انه يمتلك عوامل القوة والنجاح بالنظر إلى أنه يحترم تنوع الثقافات بل ويقرها أي يحافظ عليها لا أن يكون مدخلا لهيمنة ثقافة بعينها على باقي الثقافات، ومن ناحية أخرى يقر أيضا أنه لا مفر من ظهور مشكلات بسبب عدم وجود ثقافة واحدة مهيمنة فهكذا حياة الشعوب على مدى التاريخ، إلا أنه بفضل احترام قيم الحوار يمكن الحد من هذه المشكلات إن لم يكن تجميدها حتى لا تصبح مصدرا للخلاف أو إتاحة الفرص للكراهية بين الشعوب، خاصة إن تعلق الأمر بالمعتقد الديني الذي يعد أمرا مقدسا عند المؤمنين به. وللحق فإن هذه القضية، أي تأثير العامل الثقافي كانت حاضرة في الأذهان من البداية أيضا، حيث أعطى حوار الحضارات المجال لكل جوانب التفاعل بين الشعوب، فعرفنا حوار الأديان وحوار السياسات وحوارات الاقتصاديات. ومع ذلك فإن العامل الثقافي ظل قاسما مشتركا في أي شكل من أشكال حوار الحضارات. وتساهم كل التنوعات في إثراء الأصل وهو الحوار الحضاري الشامل بين الشعوب، حتى تبنته المنظمة الدولية كأحد مجالاتها الجديدة.

وعودة إلى ما بدأنا به من تساؤل عريض ومشروع عن الخطأ الذي أدى إلى عدم تمكن حوار الحضارات من القيام برسالته بدليل المشهد المأساوي الراهن، يمكن القول إن السبب في التعثر أو التراجع يعود لما يمكن تسميته «تمرد الثقافات الغربية» على قيم مبادئ الحوار كما تم الاتفاق أو التوافق عليها في السابق، بمعنى أن التنوع الثقافي تحول إلى عامل فرقة لا توحيد أو تعايش بين الشعوب. على العكس تماما مما كان مفترضا ومنتظرا. فالطبيعي والمنطقي أن يكون التنوع الثقافي عنصر دعم للحوار الحضاري، إلا أن الواقع المعاصر يشير إلى أنه أصبح عقبة إن لم يكن عنصر هدم للحوار. هنا تحضر على الفور خطورة تصاعد شوكة التيارات اليمينية في الغرب التي تدعو إلى نبذ الأجانب ورفض ثقافاتهم ومن ثم رفض التعايش معهم، والاستغراق في التوجهات الانعزالية الغربية فيما بين ثقافاتها ذاتها والمغالاة في العلمانية ووضع العلاقة بين الثقافات على قاعدة اللعبة الصفرية، فإما هي بالكامل وإلا فأنت ضدي حيث لا مجال للعيش المشترك. والمؤشرات كثيرة. فبعد أن كانت هناك قاعدة سياسية وفكرية واجتماعية بين المجتمعات الغربية ترفض «الإسلاموفوبيا» أي الترهيب من الإسلام، إذا بقطاع عريض من هذه القاعدة يتخلى عنها!. أيضا هناك موجة عنصرية متزايدة داخل المجتمع الأمريكي والدلائل على ذلك كثيرة وأكثرها وضوحا الاعتداءات المتكررة على السود، بالإضافة إلى التحذيرات المتشددة من الهجرة والعمل على الحد منها. كما قرر البريطانيون أن يعيشوا بطريقتهم بعيدا عن بقية شعوب القارة العجوز (البريكست)، وانفجرت الخلافات ليس فقط بين الولايات المتحدة وبقية أعضاء الناتو (الدول الأوروبية) ولكن بين بقية أعضاء الحلف (الصراع بين تركيا من جهة وكل من اليونان وقبرص من جهة أخرى)، ولا ننسى كيف أن أوروبا وقفت متفرجة لا تساعد إيطاليا في محنتها من جائحة كورونا. والمعنى أن هناك تغييرات ثقافية حادة تعيشها المجتمعات الغربية تأخذ طابعا انعزاليا وعلمانيا حادا غير مسبوق يتأذى منه ليس المسلمون المفترض أنهم مندمجون في تلك المجتمعات، وإنما أيضا بقية العالم الإسلامي. ولا شك أن المستفيد الأول من حالة الانعزالية الغربية هم المتطرفون على الجانبين أي المنتمين للجماعات الإسلامية المتطرفة وأولئك المنتمون للجماعات الغربية اليمينية المتطرفة، وكأن هناك حلفا غير مكتوب فيما بينهم، بأن يستمر العنف والتطرف المتبادل لكى يحافظ كل طرف على وجوده ويعظم حظوظه السياسية!. لقد انهار أحد أعمدة حوار الحضارات بالتخلي عن الالتزام بالتعددية الثقافية. ومع ذلك فإن الثقافة الإسلامية لم تتمرد على حوار الحضارات بل لا تزال داعمة له، بينما حدث العكس على جانب الشريك الآخر، فتوالت الأحداث الصادمة.