أفكار وآراء

المصالحة الفلسطينية.. لعلها تتحقق هذه المرة !!

02 نوفمبر 2020
02 نوفمبر 2020

د. عبدالحميد الموافي -

إن شعار المصالحة، سواء كان بين دولتين أو شعبين عربيين أو أكثر، أو بين أطراف وقوى داخل دولة عربية ما، أو بين مكونات وقوى أحد الشعوب العربية، هو من الشعارات التي تجتذب العقول والنفوس العربية على نطاق واسع ويزداد الأمر أهمية وجاذبية، عندما يكون متصلا بقوى ومكونات الشعب الفلسطيني الشقيق، وذلك بالنظر إلى إدراك الجميع، فلسطينيين وعربا، وحتى إسرائيليين لحقيقة أن المصالحة الفلسطينية، الجادة والحقيقية، هي الطريق الذي لا مفر من السير فيه إذا أرادت القوى والمنظمات الفلسطينية العمل بشكل فعّال ومؤثر لاستعادة الحقوق الفلسطينية المشروعة.

ولذا تخشى إسرائيل وبشكل حقيقي كل خطوة جادة في هذا الاتجاه وتسعى إلى عرقلتها، بكل السبل الممكنة، حفاظا على مصالحها، وتكريسا لواقع التمزق الفلسطيني لأطول فترة ممكنة.

وإذا كان الجميع عربا وفلسطينيين يلتقون على أهمية وضرورة وإلحاحية المصالحة الفلسطينية، اليوم قبل الغد، وضرورة العمل على تحقيقها، وتستطيع كل الفصائل وكل الأطراف الفلسطينية الحديث طويلا، وعلى الصعيد النظري بالطبع، حول أهمية وضرورة المصالحة واستعادة الوحدة بين الأطراف والقوى والفصائل الفلسطينية، إلا أن الواقع على الأرض عبّر ويعبر للأسف الشديد، عن واقع عملي مغاير تماما، بل إنه واقع يكرس التباعد والخلافات والانقسامات، ولا يضيّق الفجوات بين مواقف الفصائل المختلفة. ولعله من الأهمية بمكان المسارعة إلى التأكيد على أن تناول موضوع المصالحة الفلسطينية لا يستهدف أبدا أية إسقاطات، ولا محاولات، من تلك التي راجت مؤخرا، وعمدت إلى تحميل الأشقاء الفلسطينيين المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع العربية وقيام أكثر من دولة عربية بتبادل العلاقات والتطبيع مع إسرائيل. فالحديث عن أن الفلسطينيين لا يريدون الحل، أو أنهم يتمسكون بمواقف قديمة على حد تعبير كوشنر وحوارييه - أو أنهم اعتادوا إضاعة الفرص التي عرضت وتعرض عليهم، إنما هو أمر يبتعد عن الموضوعية إلى حد كبير، ويتجاهل حقيقة أن الموقف الفلسطيني حيال أي تطور، كان دوما، وفي كل الأحيان تقريبا، جزءا من الموقف العربي العام لاعتبارات وأسباب سياسية وعملية عديدة، وأن الفصائل الفلسطينية كانت تحرص دوما على ألا تبتعد عن سياق الموقف العربي العام، حتى في حالة الخلافات مع مصر بسبب كامب ديفيد واتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية في أواخر سبعينيات القرن الماضي. ومن هذا المنطلق، وفي هذا الإطار فإنه من الأهمية بمكان الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: انه مع الوضع في الاعتبار صعوبة الموقف الفلسطيني العام، وتعدد الضغوط التي يتعرض لها كفاحهم من أجل الحصول على حقوقهم الوطنية، خاصة بعد أحداث الأسابيع الأخيرة، إلا أنه بات من المهم والضروري، أكثر من أي وقت مضى، أن يقبض الفلسطينيون على قضيتهم بأيديهم هم، صحيح أنهم لن يستطيعوا الاستغناء عن الدعم العربي ولا عن العباءة العربية بشكل أو بآخر، ولكن الصحيح أيضا، أنهم في حاجة إلى تكريس وبلورة رؤية فلسطينية واضحة ومحددة ومتفق عليها فلسطينيا، وعلى أوسع نطاق من جانب فصائل وقوى المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة وفي الشتات، حول خارطة طريق فلسطينية تتضمن الأهداف والحدود والسبل والخطوات التي يمكن اتباعها في نضالهم للحصول على حقوقهم، وبدعم عربي وإقليمي ودولي أيضا. وقد أثبتت الفترة الماضية انه لا يمكن الوصول إلى ذلك إلا من خلال استعادة المصالحة والوحدة الوطنية الفلسطينية، حتى لا يكون هناك تباين أو اختلاف كبير بين موقف القيادة الفلسطينية في رام الله، وبين موقف حركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، وهو ما سمح ويسمح بثغرات يتسلل منها أطراف عدة للتأثير وللضغط على القيادات والموقف الفلسطيني. وبينما قد يقول قائل: إن الفلسطينيين اعلنوا من قبل، وفي مناسبات عدة موقفهم وما يريدونه من إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وحل مشكلات الحدود واللاجئين والقدس والمياه والمستوطنات - أي قضايا الوضع النهائي - بالتفاوض مع إسرائيل، إلا أن إسرائيل تتلاعب من جانبها، وتريد تغيير قواعد عملية السلام التي قبلت بها من قبل مستغلة ضعف الموقفين العربي والفلسطيني في السنوات الأخيرة. ولذا فإن قيام الفلسطينيين ببلورة موقفهم وخريطة طريقهم يظل أمرا ضروريا لتذكير الجميع أنه لن يتم التخلي عن الحقوق الفلسطينية، وأن التفاوض والعمل من أجل السلام لا يعني التنازل من جانب الفلسطينيين وحدهم. وفي هذا المجال فإنه من الطبيعي والضروري أن يستفيد الفلسطينيون من كل خبرة وجهد عربي مخلص يمكن أن يدعمهم بدون أن يكون لذلك ثمن يدفعه الفلسطينيون على حساب استقلالية قرارهم ولا على حساب خياراتهم الوطنية، وهو أمر شائك في الواقع بالنظر إلى سابق الخبرة العربية والإقليمية في هذا المجال ومحاولة أطراف مختلفة استغلال أو استثمار الفلسطينيين لخدمة مصالحهم، ولو على حساب المصالح الوطنية الفلسطينية ذاتها، والأمثلة في هذا المجال عديدة ومتنوعة أيضا. ومع ذلك فإن القيادة الفلسطينية تملك الآن خبرة كافية للتعامل مع الأشقاء والأصدقاء في المنطقة والحفاظ قدر الإمكان على استقلالية القرار الفلسطيني وبمرونة وذكاء يعفي الفلسطينيين من الدخول في صراعات وخلافات لا ضرورة لها، خاصة وأنهم في حاجة إلى كل الأطراف العربية المخلصة للوقوف إلى جانب قضيتهم وبدون أية معارك لا فائدة منها.

ثانيا: إنه بالرغم من أن كل الفصائل الفلسطينية، وكل الأطراف العربية، تتفق على أن المصالحة الفلسطينية، واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، هي البوابة والعتبة الأساسية لتحقيق هذا الهدف الوطني الفلسطيني، إلا أن المشكلة تكمن في تباين واختلاف الفصائل الفلسطينية، وبالأساس بين حركتي فتح وحماس ومن يؤيد كل منهما حول كيفية تحقيق المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية عمليا. وبعد عام 2006 وأحداث عام 2007 في قطاع غزة، فإن وضعا انقساميا يزداد وضوحا على الأرض بين فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله من جانب، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي والفصائل الأخرى المؤيدة لهما في قطاع غزة من جانب آخر، والمؤسف أن هذا الوضع كوّن معه مستفيدين كثرا، وأصبح هناك من لا يريدون لهذا الانقسام الفلسطيني أن ينتهي، لأن نهايته ستعني خسائر لهم، وهو ما أشار إليه روحي فتوح عضو اللجنة المركزية لحركة فتح قبل أيام.

وبالرغم من أنه تم حل مشكلة التمثيل الفلسطيني أمام المؤسسات العربية والدولية باعتراف الجميع بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وذلك منذ عام 1974، إلا أن حركتي حماس والجهاد الإسلاميتين ترفضان الدخول إلى عضوية منظمة التحرير الفلسطينية، بل إن حركة حماس تريد أن تقوم بدور تمثيلي يعادل منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك من خلال السيطرة على قطاع غزة، والقبول بعقد اتفاقات تهدئة مع إسرائيل وإجراء مفاوضات معها في الفترة الماضية، وقد انعكس ذلك كله على الأوضاع الفلسطينية ولا يزال حتى الآن للأسف الشديد.

ثالثا: انه في ظل خبرة السنوات الأخيرة على الصعيد الفلسطيني، فإنه من الخطأ والخطر أيضا، أن يتحول شعار المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية إلى مجرد شعار تكتيكي، يظهر في حالات الأزمات أو الضغوط التي تتعرض لها القيادة والقضية الفلسطينية أو بعض الفصائل، كما حدث عندما طرحت صفقة القرن وغيرها، أو أن يتم استخدام هذه الدعوة الوطنية العزيزة من جانب طرف فلسطيني لإحراج طرف أو أطراف فلسطينية أخرى لأسباب لا تمت للمصالح الفلسطينية الوطنية بصلة. فمن شأن حدوث ذلك وتكراره بدون نتائج ملموسة على الأرض، إضعاف هذا الشعار والنيل من مصداقية تلك الدعوة الوطنية الفلسطينية التي تمثل مفتاح قوة الموقف الفلسطيني، ومن ثم عدم الجدية في التعامل السياسي معها، وبالتالي فقدان الثقة في إمكانية تحققها وفي جدية طرحها من جانب هذا الطرف أو ذاك، وبالتالي تتبخر وتتضاءل الرغبة والقدرة على تحقيق هذا الشعار الوطني على الأرض تدريجيا، مما يكرس حالة الانقسام بين رام الله وغزة والتي لا تخدم لا القضية ولا الشعب الفلسطيني لا في الحاضر ولا في المستقبل. وفي هذا الإطار فقد تفاءل الكثيرون بالدعوة إلى المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية بعد أحداث الأسابيع الأخيرة، وازداد الحماس والتفاؤل بعد اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية برئاسة الرئيس الفلسطيني محمود عباس في 3 سبتمبر الماضي في رام الله وبيروت عبر الفيديو كونفرنس، كما استبشر كثيرون خيرا باجتماع ممثلين عن حركتي فتح وحماس في القنصلية الفلسطينية في إسطنبول في 22 سبتمبر الماضي أيضا، خاصة وأنه شهد طرح ممثل حماس، صالح العروري، لوثيقة تتضمن ستة عناصر تتمثل في التمثيل النسبي والشراكة الكاملة، وتم التوافق خلاله أيضا على إجراء انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، ثم انتخابات الرئاسة الفلسطينية، وتليها انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني وذلك بالتتابع خلال ستة أشهر لإعادة بناء النظام والمؤسسات الفلسطينية، وبعد مرور نحو شهرين على ذلك انخفضت وتيرة الحديث عن المصالحة الوطنية الفلسطينية إلى حد التلاشي تقريبا، ولم تتلق حركة فتح جوابا من حركة حماس، التي بحثت مخرجات إسطنبول في اجتماع لقادتها في الدوحة، وذلك على حد قول روحي فتوح، الذي أشار إلى «أن اللجنة المركزية لحركة فتح وافقت بالإجماع على التفاهمات التي تم التوصل إليها في إسطنبول وما زلنا ننتظر موافقة المكتب السياسي لحماس، هناك أمل حتى الآن» ومما له دلالة انه أشار أيضا إلى أنه يبدو «أن فكرة المصالحة لم تنضج عند البعض خاصة في غزة وممكن أن يكون هناك متضرر من المصالحة وسيفقد الكثير إذا تحققت ولدينا تحليل أنه ربما يعيق البعض المصالحة لمصالح شخصية»، أما حماس فقد دعت من جانبها «السلطة الفلسطينية وفتح إلى رفض الضغوط العربية والإقليمية والمضي في إنهاء الانقسام «، وبغض النظر عن هذه الدعوة أو تلك، فإن الواقع هو أن خطوات العمل لتحقيق المصالحة الفلسطينية تتضاءل، خاصة وأنه لم يتحدد بعد موعد لعقد المؤتمر الثاني للأمناء العامين الذي كان مقررا عقده بالقاهرة في الثالث من أكتوبر الماضي، وبينما نتمنى أن يتم التغلب على كل العقبات، خاصة بعد المشاورات الفلسطينية مع كل من القاهرة وأطراف عربية أخرى، فإن عدم تحقق المصالحة يصب بالتأكيد في صالح إسرائيل ويدفع الشعب الفلسطيني ثمنه كل يوم، وهو ما ينبغي وضع نهاية له.