أفكار وآراء

«فخ الرفاهية» .. حسب تعبير يوفال نوح

01 نوفمبر 2020
01 نوفمبر 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

أقر بأنه، قبل الشروع في كتابة هذا الموضوع، أن أول ما شدني للكتابة، ليس هو مصطلح «الرفاهية» - الرَّفاهِيَةُ: رغد العيش يعيش حياة الرَّفاهيَّة، حسب معجم المعاني الجامع (جوجل) - ذاته، فلم يكن هذا المصطلح جديدا على الذاكرة الجمعية في محيطها المحلي، فمنذ أعمارنا المبكرة تتوارد الكلمة على المشهد ذاته فتسجل حضورا طاغيا،

وإن استعيض عنها بكلمة «غنى» في وقت مبكر، ولكن ما شدني أكثر هو مصطلح «الفخ» الذي أورده الباحث (يوفال نوح هراري) في كتابه (العاقل) مما حفزني إلى الإصغاء أكثر لتنويعات هذه الكلمة، والبحث أكثر في متون تأثيراتها في حياتنا اليومية، فجملة وقع في الـ«فخ» ليست جديدة على هذه الذاكرة، لكن أن نقرأها في ثقافة الآخرين، وبالاستخدام نفسه، فهذا ما جعل ذاكرتي تُستَفز لتصل إلى خلاصة كتابة هذا الموضوع.

فـ«فخ»: اسم، والجمع فخاخ وفخوخ، وهو مصيدة، أداة لولب تصاد بها الطيور والقوارض، والحيوانات الثديية الصغيرة، وقد يراد بها معنى خدعة أو طريقة ملتوية لوضع شخص ما في أزمة أو خطر - حسب معجم المعاني (جوجل) - والسؤال الذي يمكن طرحه هنا، هو: ما هي مجموعة الـ«أفخاخ» التي نقع فيها، أو يوقعنا فيها الآخرون، أو توقعنا فيها قلة التجارب، أو الجهل، أو قصر النظر، أو الافتتان، أو التعجل وعدم التروي، أو الطموح الزائد عن حده، أو الطمع المبالغ فيه، أو حشريتنا الزائدة لما نراه في أيدي الآخرين، أو التقليد غير المبني على أسس حكيمة، أو المفاضلة بين الأشياء ظاهريا؟

قد تستوقف أحدنا مسألة التفريق بين الـ«فخ» والـ«مأزق» وأيهما أقرب للمعنى في هذا السياق؟ ويبدو أن اختيار الـ«فخ» اختيار عميق جدا، أكثر منه لـ«المأزق» فنحن، ومن خلال ممارساتنا الكثيرة في هذه الحياة، لا نصنع «أفخاخا» لنوقع أنفسنا فيها، وإلا عد ذلك نوعا من قلة الحكمة، وقلة التعقل كذلك، إذن الوقوع في الفخ، يظل وقوعا لا إراديا، وأن هناك من ينصب لنا «أفخاخا» لنقع فيها، أما الأمر في شأن المأزق فهو يختلف كثيرا، فنحن نقع في مآزق كثيرة، وقد نكون ندرك حقيقة هذا الوقوع، ولا نجنب أنفسنا هذا الوقوع، فنسلم الأمر «مع سبق الإصرار والترصد» ومع ذلك نستمر في الطريق ذاته، فـ«المأزق» فارض نفسه بقوة الحدث الواقع فيه أحدنا، ولنضرب مثلًا لتقريب المعنى، فأحدنا عزم أمره على الذهاب في رحلة خلوية بصحبة أسرته، ولم يتأكد من إطار المركبة البديل، لم يأخذ ماء كافيا للشرب والاستعمالات الأخرى المصاحبة، وغيرها من مستلزمات الرحلة، فلو حدث أن أحد إطارات المركبة أصيب، وعند العودة إلى البديل لم نجد فيه الهواء الكافي لحمل السيارة إلى أقرب ورشة لتصليح الإطارات، فهنا نحن في مأزق حقيقي صنعناه بأنفسنا، ولسنا في فخ نصبه لنا أحد الأشخاص.

وأما ربط الـ«رفاهية» بالـ«فخ» فهنا القصة تأخذ أبعاد كثيرة، حسب تعبير (يوفال نوح هراري) في كتابه (العاقل) فمنذ أعمارنا الصغيرة، ونحن نحلم، ونحلم بهذه الـ«رفاهية» والتي لا تزال حلمًا أسطوريًا بعيد المنال، ولأنها بهذه الصورة المتخيلة، والمأخوذة من مفهوم، أقرب له، السراب، فلا تزال تمارس غواياتها على العقول، والأنفس والقلوب، ولأن محطتها تائهة بين المال، أو الجاه، أو المناصب، أو المناصرة المجتمعية الحاشدة، فستظل كذلك بهذا الحلم الأسطوري، وسيظل الإنسان يبحث عن رفاهيته، حتى آخر لحظة من حياته، وستنقضي أيام العمر كلها، وربما لن يصل أحدنا إلا إلى الشيء اليسير من هذه الرفاهية، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الكم الهائل من الجهد المبذول للوصول إلى الرفاهية لن يتوقف عند نقطة معينة، وكلما أنجزنا جهدا مقدرا في الاتجاه ذاته، شعرنا بأنه لا بد من بذل جهد آخر فـ«الفرج قريب» وهكذا تستمرئ علينا أنفسنا ببساطة المسافة الفاصلة، فإذا بنا نصل إلى النهايات الأخيرة من العمر، ولا نزال في المسافة الفاصلة ذاتها، لتظل الرفاهية حلمًا أسطوريًا كما نجزم، وعلى الرغم من معرفتنا عن أن البحث عن الـ«رفاهية» كمن يبحث عن «إبرة في كومة قش» ولكننا رغم ذلك لا نزال نعيش صراعا مريرا بين هذه الحقيقة، وما تتوق إليه أنفسنا للوصول إلى هذا المستوى من الحياة الرغدة السعيدة، وأغلب الظن أن هذا الدافع الذاتي يواجه ضغوطا خارجية هي التي تدفع به لأن «يركب ظهر المجن» وهذه الضغوط الظاهرية هي المتمثلة في الأقربين إلينا الذين يحثوننا دائما على بذل المزيد من الجهد، وعلى المحاولة، وعلى بسط معوقات الحياة وأنها ليست بذلك التعقيد الذي يشل مقاومتنا عن تحقيق النصر القريب جدا، فهل هؤلاء الآخرون هم من يمثلون أحد معاني هذا الـ«فخ»؟

والسؤال الآخر الذي يمكن طرحه في هذه المناقشة أيضا: من يحدد رغد العيش الذي يجب أن يعيشه جميعنا: نحن، هم، ما نملك، ما نقتنع به ويرضي ذواتنا، ما نسقطه من مقارنات على أرض الواقع، ما بيننا وبين الآخرين من حولنا، ما نعيشه من صحة، ما يزيد عن حاجياتنا اليومية، ما نشارك به الآخرين ممن يستحقون، ما يتاح لنا رؤيته ما لم يتح لآخرين من حولنا، ما يُقيّمنا به الآخرون، ما تختلج به مشاعرنا من رضا، ما تتفصل به أمكنتنا؟

يقول (يوفال نوح هراري): «أسفر السعي إلى حياة أسهل عن معاناة أكبر، ولم تكن تلك المرة الأخيرة، فذلك يحدث لنا هذه الأيام، فكم من خريجي الجامعات الشباب من يقبل بوظائف متطلبة في مؤسسات رفيعة المستوى، آخذين على أنفسهم عهدا بأن يعملوا بجد لكسب المال الذي سيمكنهم من التقاعد والسعي لمصالحهم الحقيقية حين يبلغون الثلاثين والخمسين! لكن ببلوغهم ذلك العمر، ستكون لديهم قروض عقارية ضخمة، وأطفال في المدارس، وبيوت في الضواحي تستلزم سيارتين على الأقل لكل عائلة، وشعور بأن الحياة لا تستحق عيشها دون (...) وإجازات مكلفة في الخارج. فما الذي يتوجب عليهم فعله؟ هل عليهم أن يعودوا للحفر بحثا عن الجذور؟ بالطبع لا، سيضاعفون جهودهم ويظلون يكدحون بمشقة» كتاب العاقل -تاريخ مختصر للنوع البشري- (مترجم).

ووفقًا لهذا المعنى، نذكر هنا مقاربة شديدة الحساسية، كانت ولا تزال حديث مجتمعنا المحلي، حيث أثير الكثير من اللغط في شأن إحالة مجموعة من الموظفين إلى التقاعد في مؤسسات القطاع العام، ممن أكملوا الـ(30) عامًا وأكثر في الوظيفة، ومن المرجح أن أغلب من انطبق عليهم شرط الـ(30) عاما هم أقل بكثير ممن تجاوزا هذه الفترة الزمنية للوظيفة، فهناك من وصل إلى الـ(40) عاما تقريبا في الوظيفة، وبالتالي فعذر هؤلاء غير الراضين عن هذا القرار، لأنهم وقعوا في «فخ الرفاهية» فخلال كل هذه المدة من السنين لم يستطيعوا أن يتحرروا من كثير من الالتزامات، حيث حمّلوا أنفسهم طموحات مبالغا فيها، وإما طموحات تتجاوز قدراتهم المالية، وأغلبها مادية، وبالتالي فكلما أنجزوا شيئا منها، شاغلهم الطموح للبدء في إنجاز آخر، أو توسيع رقعة الأولى، ربما متطلباتها أكثر تعقيدا، ظنا منهم بأن ذلك سوف يوصلهم إلى مستويات أعلى لحياة أكثر رفاهية، ولذلك عاشوا «سنين عجاف» فلا الـ «رفاهية» تحققت، ولا هم وصلوا إلى قناعة بأن لا رفاهية حقيقية على الواقع في ظل مسافة زمنية خاضعة لتقلبات ظرفية كثيرة، وبالتالي مهما تضاعفت هذه السنون العجاف في أعمار الوظيفة، لن يغير من الأمر شيئا، وسنصل إلى سن التقاعد القانوني الـ(60) عاما، ولربما يقدم أحدنا إلى جهة عمله لإعطائه سنوات أخرى كـ«استثناء» من القانون، فلعله في هذه السنوات المستثناءة المعدودة، تحل لنا إشكالية الوصول إلى الـ«رفاهية» الأسطورة.

وأعود هنا ختاما، إلى الكاتب نفسه لأضع هذه الخلاصة المهمة، والتي يقول فيها: «تحمل قصة فخ الرفاهية في طيها درسا مهما، وهو أن بحث البشرية عن حياة أسهل يبعث قوى هائلة من التغيير تحول العالم بطرق لا أحد يتوقعها أو يريدها» -انتهى النص، للمصدر ذاته.