أفكار وآراء

العلمانية والأديان.. طريق واحد

01 نوفمبر 2020
01 نوفمبر 2020

خميس بن راشد العدوي -

التهبت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بالتحليلات والتعليقات والردود على حادثة مقتل المعلم الفرنسي؛ الذي عرض على طلابه صورا عن النبي الأكرم محمد لا تليق بجلال مقامه العظيم، قُتل من قِبَل مسلم، وسرت دعوة بين المسلمين بوجوب مقاطعة المنتجات الفرنسية، كما حصل تلاسن بين بعض الجهات السياسية في فرنسا وخارجها، هذه الحالة لم تحصل لأول مرة، وإنما هي سمة عامة للعشرين السنة المنصرمة، ولا أظنها الأخيرة، وبالفعل.. عند مراجعتي هذا المقال بعد كتابته قُتل في نفس السياق ثلاثة أشخاص أمام كنيسة نوتردام في نيس الفرنسية أيضاً من قِبَل مسلم. إن معظم سيناريوهات ردود فعل الأطراف تكاد تكون واحدة، رسوم مسيئة أو حرق للمصحف الشريف أو منع نقاب وخمار من الطرف العلماني، يتبعه ثوران عارم من المسلمين، قد يتطور لأعمال عنف وقتل، تصلّب علماني ريثما تبرد عواطف المسلمين، وفعلاً.. بعد مدة تبرد ولكنها تظل مختبئة تنتظر إثارة جديدة، ولا حل، ثم يتكرر المشهد. وخلال تلك المشاهد؛ لا تقف المناوشات بين الطرفين العلماني والإسلامي، بل تتطور لتحدث جدالاً وتخويناً؛ بين المسلمين بعضهم البعض، وكذلك هو الحال بين العلمانيين.

لن أتحدث هنا عن هذه الحادثة؛ لأمرين:

- أن معظم ما يروّج حولها غير متيَقّن منه، وربما الحادثة برمتها مفتعلة لأغراض سياسية؛ داخل فرنسا وخارجها، وكل أحد يستغلها لأجندته ومعتقداته، بغض النظر عن سير أحداثها.

- أن الحادثة عَرَض لمرض متأصل في البشرية هو العنف، وما نراه تمظهر له؛ سواء تجلى في فعل العلمانيين أو المسلمين.

وإنما أتحدث عن الباعث لهذه الأعراض العنيفة، وأركز على العقائد الشمولية عموماً، مع المقارنة بين العلمانية الفرنسية والدين الإسلامي، لأنهما طرفا الحادثة الأخيرة.

العنف.. من طبيعة النفس الإنسانية، لاسيما عندما يجد منظومة شمولية؛ فتمارسه بقسوة، نجد ذلك في الشيوعية والنازية والفاشية، وفي الأديان عندما تتحول إلى منظومات سياسية شمولية متذرعة بالمعتقدات الدينية؛ كاقتتال المسلمين فيما بينهم، وفتوحاتهم للبلدان، والحروب الصليبية، وجرائم الصهيونية في فلسطين، ورأيناه لدى الهندوس والبوذيين، وهو ما مارسته العلمانية في إطار المنظومة الرأسمالية خلال حقبتها الاستعمارية، ولا تزال تمارسه بطريقة أو أخرى.

عندما ننظر إلى الدين وأخص الإسلام؛ نجده قد ركّز على قضيتين جوهريتين؛ هما: الإيمان بالله والحث على الأخلاق، ولكي يتحقق ذلك كان لابد له من إبطال المعتقدات التي تقف ضد حرية الإيمان؛ فلا إكراه في الدين، ومواجهة الممارسات التي تنتهك الخُلُق؛ بإقرار نظام قائم على مكارم الأخلاق. ثم لم يلبث الدين طويلاً بعد نبيه الكريم حتى تحول لدى كثير من أتباعه إلى منظومة معتقدات وطقوس في ظل سجية الإنسان الأولى؛ وهي العنف، فقد دخل المسلمون في صراع دموي، جرى بعده مباشرة إعادة كتابة المنظومة الدينية بمداد العنف، وقد تحدثت عن ذلك في كتابي «السياسة بالدين».

فإذا.. ما نتعامل معه الآن هو منظومة دينية مفارقة للدين الذي جاء به نبي الرحمة، والذي ينبغي استمداده من روح القرآن، هذه المنظومة نمت في ظل الصراع بين المسلمين أولاً، ثم بينهم وبين الآخرين في الفتوح والغزوات، وبما أن المسلمين لا يزالون يفكرون وفق البنية المعرفية المتشبّعة بالعنف فستظل تصرفاتهم محكومة بذلك.

نعم.. توجد فوارق وتفاصيل بين المسلمين في ذلك، ولا يمكن وضعهم في «سلة واحدة»، إلا أنها فوارق لا ترجع للمنظومة المؤسِّسة، بمقدار رجوعها للتطورات الفكرية التي حصلت نتيجة الدولة الحديثة، ولاحتكاك المسلمين بالرؤية الحديثة للعالم.

العلمانية.. كذلك لا يمكن وضعها في «سلة واحدة»، فهناك كثير من المسارات المتباينة التي اتبعها العلمانيون، وبالإمكان أن نميّز بين العلمانية الإنجليزية التي نشأت بالتدرّج كمعطى اجتماعي فرضه تتطور الواقع؛ فشهدت الأديان قدراً كبيراً من التعايش في بريطانيا، وبين العلمانية الفرنسية التي ولدت لحظة الصراع للتحرر من الكنيسة عشية الثورة الفرنسية التي كان من شعاراتها: (يجب شنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس). بل حتى العلمانية الإنجليزية لم تسلم من ممارسة العنف، وذلك عبر حقبتها الاستعمارية المتلطخة بدماء الشعوب ونهب مقدراتهم الوطنية.

وهكذا.. فالعلمانية كالأديان تحولت إلى إيديولوجيا، وقد مارست العنف، ولا تزال تمارسه، ورُبَّ مدافع عنها يقول: إن العلمانية لا تنسب مقولاتها إلى الله، ولا تحمل القدسية التي تحملها الأديان، وبالتالي.. ما يصدر عنها سيتغيّر مع مرور الأيام، أما مقولات الأديان فهي ثابتة لا يستجيز المتدين بها الخروج عنها. وهذه رؤية من يريد أن يدين خصمه، لا من ينظر إلى أصل المشكلة، فالمشكلة ليست في الإيمان بالمعتقد، والذي تحترمه العلمانية كما تؤكد على ذلك بنفسها، بل المشكلة في الفعل، وهو -تحديداً- فعل العنف، فلا معتقد أتباع الأديان بأن المصدر الله عصمهم منه، ولا مبدأ أصحاب العلمانية بأن المصدر بشري جنبهم إياه، فالعنف الذي مارسه العلمانيون لا يقل عمّا مارسه المتدينون.

ثم من أين الزعم بأن مقولات الأديان لا تتغيّر؟ وأتباعها يقومون بذلك باستمرار عبر تأويل نصوصها، وما يملي التأويل هو الواقع، فإن كف الواقع عن العنف فإن مقولات الأديان قابلة كذلك لتكف دلالاتها عنه، فها هم المفكرون المسلمون من أكثر الناس دعوة للتسامح، ويعلنون رؤيتهم باستمرار، لكن العلمانية الفرنسية -لأغراض سياسية- لا تريد أن تسمع هذا الصوت، وتواصل ممثلة في سياسييها إثارة العنف ومواجهة العنف بلغة العنف، والعنف ليس له شكل واحد هو القتل والتخريب؛ فقد يكون باللغة الجافية والاستفزاز واستغلال القانون والتذرع بالحفاظ على المبادئ.

التعصب.. خصلة أصيب بها العلمانيون مثلما أصيب بها المتدينون، وإذا كان قد عانى الفرنسيون من تعصب الكنيسة فثاروا ضدها قبل أكثر من قرنين؛ فإن العلمانية فشلت في تهذيب نفوس سدنتها من التعصب، بل تحول إلى دين تمارسه باسم الحرية؛ التي تعتبرها العلمانية أحد أبرز مقدساتها، إن الدفاع عن مكتسبات العلمانية يجب أن يكون بتجنب التعصب وترسيخ قيم السلم والحوار، وستجد العلمانية صعوبة في ذلك، لكن عليها تذليلها، لا إثارة التعصب المضاد.

وقعت العلمانية كذلك في الاستغلال السياسي، فهي مُستغَلة كالأديان من الساسة، ليحققوا مآربهم، سواء داخل بلدانهم أو خارجها، ويكفي أن الغرب العلماني يقف حائلاً دون تمكّن «التيارات الليبرالية» من إدارة دولها، أو وصول «الإسلام السياسي» إلى الحكم، مع أن الغرب دعّمه ليواجه الشيوعية باسم الحفاظ على القيم الرأسمالية حتى لا تنهار منظومته أمام ضربات البلاشفة، وفرنسا ذاتها وقفت ضد وصول الإسلاميين إلى الحكم في الجزائر. ومن المفارقات العلمانية.. أن فرنسا تعتبر نفسها حامية للمسيحية في الشرق، بل إن العديد من الدول العلمانية الغربية تفعل ذلك.

هكذا.. نجد أن العلمانية وقعت فيما وقعت فيه الأديان التي تحولت إلى معتقدات شمولية مؤدلجة، بعد أن جاء الدين ليكون رحمة للعالمين، فمجيء العلمانية لتحييد الأديان عن هيمنتها على الدولة والمجتمع؛ لم يعصمها من الوقوع في المطب الذي اصطنعته الأديان للحد من حريات المختلفين مع معتقداتها، بل وحماية بعض المعتقدات الدينية ومصالح معتنقيها. وهذا لا ينفي أن الأديان والعلمانية قد حققا مكاسب للبشرية، ولكن ليس هنا مجال بسطه.

أدرك تماماً مدى تغلغل العنف في النفس الإنسانية، وقد أخفقت البشرية في علاجه بالأديان وبالعلمانية، ولذلك على البشرية لتخرج من هذا المستنقع ألا تنحاز لطرف دون آخر يمارس العنف، سواءً الأديان أو العلمانية، أو أية منظومة شمولية، وعلى الفلاسفة والمفكرين أن يشتغلوا بالتنظير لكنس بارود العنف من جميع دهاليز المقولات؛ سواءً أكانت دينية أم علمانية.