Untitled-1
Untitled-1
الثقافة

بيروت في المرايا الروائيّة العربيّة المُتكسِّرة

28 أكتوبر 2020
28 أكتوبر 2020

د. نبيل سليمان -

إنّها المدينة الأيقونة، المدينة المقدَّسة والمدينة الملوَّنة والمُبارَكة والمَلعونة والفاجِعة، مدينة الحريّة والحرب والحبّ والعنف و.. والفساد.

إنّها بيروت، ليس كما يرسمها الشعراء والفنّانون هذه المرّة، بل كما رسمها كتّاب وكاتبات الرواية العربيّة.

نزرة هي الروايات، من غير السوريّة واللّبنانيّة، التي عادت إلى بيروت قبل سبعينيّات القرن الماضي، أي قبل الحرب. ومن هذه النّزر رواية واسيني الأعرج «ميّ: ليالي إيزيس كوبيا» (2018)، فالرواية موقوفة على حياة ميّ زيادة (1886 - 1941)، وبخاصّة ما كان منها في بيروت. وفيما يروي الكاتِب عن مُلابسات مخطوطة ميّ زيادة « ليالي العصفوريّة»، يمضي وشريكته روز خليل في البحث عن المخطوطة الضائعة، إلى مخبر الأبحاث التاريخيّة والفنيّة في الجامعة الأمريكيّة في بيروت. والشريكان يحضّران لشريط وثائقي عن ميّ زيادة، ومن أجل ذلك تواصلا مع إدارة سوليدير المالكة لعقار العصفوريّة. لكنّ سوليدير رفضت المشروع. وفي هذا السياق توجِز الرواية تاريخ العصفوريّة (مشفى المَجانين).

أثناء المأساة المروّعة، تحضر بيروت كأنّما في مرآة متكسّرة يلطمها نشيج ميّ زيادة: «يااااااه يا بيروت، ماذا فعلت بي؟» وتستذكر كيف اقتيدت إلى العصفوريّة، فتنشج أيضاً: «وآه يا بيروت، كيف احتملت أن أجتاز شوارعك في ذلك المَوكب المشين؟». وعلى الرّغم من المأساة، تُناجي ميّ بيروت: «يا مدينتي العاشقة. مَهربي الكبير عندما ينتابني الخوف والوحدة». وحين نجت من جحيم العصفوريّة، تراها تستعيد بيروت التي ضاعت منها سنة بطولها. وفي مشفى نقولا ربيز، حيث نُقلت للاستشفاء بعد المأساة، تشكو بيروت لأمين الريحاني: «حتّى بيروت التي أحببتها خدعتني، أغلقت حواسها وصمّت آذانها لكي لا تسمعني وأنا أصرخ عالياً (...) اسمعيني يا بيروت. لا أحد غيرك يسمَعني. هذه هي الحقيقة. أنا لا أتخيّل يا بيروت. أنتِ لست البشر. أنتِ كلّ شيء. اسمعيني»

من مرآة إلى مرآة تتعدَّد وتتكسَّر صُور بيروت، ومنها الجامعة الأمريكيّة حيث حاضرت ميّ زيادة مراراً. وتُركِّز الرواية على محاضرة «رسالة الأديب إلى الحياة العربيّة» التي ألقتها في (22/3/1938) بدعوة من الجامعة والعروة الوثقى. وفي مرآة أخرى تلك هي بيروت التي تُداري شجنها وحروبها السريّة، بجنونها المُعتاد وصمْتها المُخاتِل. وعلى الرّغم من أنّ ميّ تصدح أنّها ربحت «معركة بيروت»، فهي تتساءل: «ماذا لو صعدتُ على الروشة، ورفعتُ صوتي عالياً، كمَن يعيش في دغلٍ خالٍ من كلّ حياة، وصرختُ ملء قلبي وأحاسيسي وجنوني أيضاً: «يا ذريّة القبح والضغينة، مازلتُ هنااااااا، لن أموت كما تشتهووووون».

إلى بيروت ما قبل الحرب تعود سحر خليفة في روايتها «أرض وسماء»(2013)، عبر ما تابعتْ من سيرة أنطون سعادة (1904 - 1949)، ومن مآلات بعض شخصيّاتها الفلسطينيّة إبّان النكبة، حيث تظهر بيروت نقيضاً للوادي السعيد الذي تشعّ منه أنوار أنطون سعادة. ففي مَشاهِد المُظاهرتَيْن الطائفيّتَيْن اللّتَيْن تتشاتمان بالدّين والمذهب، تبدو بيروت مُنقسِمة وموبوءة بالطائفيّة، ولكنْ من دون أن ننسى دلالة تخرُّج لارا في خاتمة الرواية من الجامعة الأمريكيّة، حيث بدأ حلم أنطون سعادة.

بيروت الحرب مبكرةً جاءت رواية «الشيّاح» (1976) للكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل مُتعنونةً باسم حيّ بيروتي. وقد ألحّت على اليوميّات السياسيّة والطابع الطبقي للحرب، وعلى الوصف المفصَّل واللّقطة السينمائيّة، ممّا بدا في صورة السرداب أثناء القتال، أو في حصار السياح النفطيّين العرب بين الحمرا والبحر..

ومثل روايتَي «الشيّاح» و«أرض وسماء» كانت بيروت فضاءً وحيداً لرواية صنع الله إبراهيم «بيروت بيروت» (1984)، والتي عَبَرَت بتاريخ بيروت منذ حرب 1960، ولكنْ بصورة مصغّرة وحائلة، تبدو مهاداً لغاية الرواية: بيروت في زمن الحرب التي اندلعت في العام 1975.

تتصدّر الرواية خريطة لبيروت وأخرى للبنان تتّصل بالعواصم المُجاوِرة. أمّا الأولى فتَرسم الشوارع والأزقّة والساحات. وتحدِّد هذه الخريطة توزّع الفضاء البيروتي على الأحزاب والطوائف المُنخرِطة في الحرب، وعلى ما يفصل بينها ممّا عُرف بخطوط التماس. ولا يحمل «بطل» الرواية اسماً، بينما يروي بضمير المتكلّم مُعزِّزاً السِّيِريّة. وتبدأ الرواية بوصول الراوي المصري إلى بيروت حاملاً مخطوطة كِتاب جديد له. لكنّ الناشر الذي قصده لم يكُن في المدينة، فدار الراوي على الناشرين، وعبر ذلك سَلَقَ سوقَ النشر البيروتيّة، كما سَلَقَ الزعامات الحزبيّة والطائفيّة والمثّقفين والأنظمة، مقابل تمجيد القاع اللّبناني الفلسطيني في بيروت.

يلتقي الراوي بصديقه منذ العهد بالدراسة والسجن في القاهرة وديع مسيحة الذي يعمل في بيروت منذ سنين، وهو مَن جَمَعَ الراوي بالمُخرجة أنطوانيت التي تعمل في بيروت الغربيّة، لكنّها من بيروت الشرقيّة، ليكتب تعليقاً على فيلمها الوثائقي الذي سيقدِّم تاريخ لبنان خلال قرن، وصولاً إلى الحرب. وهكذا تصير الرواية بعد الصفحة 77 مزيجاً من سيناريو الفيلم (التاريخ) والحياة اليوميّة للراوي في بيروت ( الحاضر/ الرّاهن).

وتقدِّم رواية شوقي عبد الحكيم «بيروت البكاء ليلاً» (1985)، المُهاجِر المصري العجوز الذي فرّ من بلده إلى بيروت التي يُشبِّهها بجسدٍ بشريّ مقطَّع، قبل الاجتياح الإسرائيلي لها عام 1982، وأثناءه. ويرصد هذا الذي يجمع حكايات الشعوب، وشرعَ بجمْع اللّبناني منها منذ وصوله، عبر مَحاور أشلاء جسد المدينة الممزَّق. كما يرصد الشعارات التي تملأ الجدران، والدويّ اليومي «مع مطلع النهار البيروتي، والحرب الأهليّة العنصريّة تعتصر رحيق أناسها وشوارعها». وإذا كان للسِّيَريّة في رواية شوقي عبد الحكيم ظلٌّ أو أكثر، فالسِّيَريّة تأتي صريحة في رواية رؤوف مسعد «بيضة النعامة» (1993)، لأنّ الراوي/ الكاتب قد عاش في بيروت، وعمل في جريدة السفير، حتّى إذا كان الحصار الإسرائيلي صيف1982، انتقلَ إلى العمل في مجلّة منظّمة العمل الشيوعي. وإذا كانت بيروت فصلاً من فصول سيرة/ حياة الكاتِب في (بيضة النعامة)، مثل فصول البلدان الأخرى التي عاش فيها، وبخاصّة مصر والسودان، فقد أَوقف رؤوف مسعد على بيروت وحدها كِتابه السردي «صباح الخير يا وطن: شهادة من بيروت المحاصرة» (1983)، وقد كتبَ أنّه استقى عنوان هذا الكِتاب من تحيّة السائق الذي أخرجه من بيروت، للمسلّحين على الحواجز في بيروت الغربيّة: (صباح الخير يا وطن)، بينما تصير التحيّة في بيروت الشرقيّة: (يعطيكو العافية).

حضرت بيروت أيضاً كفصلٍ من رواية بهاء طاهر «الحبّ في المنفى» (1995)، التي اندغم فيها السِّيَري بالوثائقي بالتخييلي، قبل وأثناء الاجتياح الإسرائيلي، كما رسمت عَينا الصحفي المصري الماركسي المُعتقَل السابق إبراهيم الذي لجأ إلى بيروت وقضى في حربها. أمّا في رواية «الطنطوريّة» (2010) لرضوى عاشور فيكون لبيروت حضور فاعل أكبر، وإن تكُنْ الرواية تؤرِّخ لأسرة فلسطينيّة منذ 1947. ويتّقد هذا الحضور بخاصّة عبر شخصيّة رقيّة التي عاشت في بيروت منذ اللّجوء، فيكون لبيروت بالتالي إيماضات ممّا قبل الحرب، حتّى إذا نشبت الحرب، وبخاصّة، حتّى إذا ما جاء الاجتياح الإسرائيلي ومذابح صبرا وشاتيلا، تفجَّرت الرواية، لكأنّ رضوى عاشور قد حوَّلت الكتابة إلى عيشٍ لا يكفي فيه الوصف بالمدمّى أو الكابوسي. وقد تحوَّلت حرب المخيّمات إلى كابوس مروّع في رواية ممدوح الشيخ «القاهرة.. بيروت.. باريس» (2006)، وذلك عبر رحلة الصحافي بهي الأحمدي إلى بيروت، لمُتابعة ما بدأه في القاهرة من اكتشاف بقايا لحْم بشري في علب اللّحم البقري. وفي بيروت، يتأكّد بهي من جريمة شركة متعدّدة الجنسيّات، أصلها في باريس وفروعها في القاهرة وبيروت، حيث تقوم بطحْن جثث شهداء حرب المخيّمات وتعليبه، لتسوّقه على أنّه لحم بقري مجمّد!. وأخيراً أشير إلى الرواية المصريّة الوحيدة التي مضت إلى حرب تمّوز (يوليو) 2006، وهي «كلّ شيء مُباح في بيروت» (2013) لعلي مصباح، وفيها يلجأ عماد إلى بيروت من أزمته الشخصيّة، وإذا بالحرب تنشب. ومن الكثير الذي تصوِّره الرواية عن الحرب، يأتي التحرُّك الطلّابي في الجامعة الأمريكيّة ضدّ الوحش الإسرائيلي.

بالمضيّ إلى الرواية الفلسطينيّة، يتلامح في حمّى الحرب الشاطئ ومُخيّم تلّ الزعتر ومخيّم الدامور و... في رواية يحيى يخلف «نشيد الحياة» (1983). وعلى الحصار والاجتياح الإسرائيلي تتركَّز روايتا رشاد أبو شاور «آه يا بيروت» (1983) و«الربّ لم يَسترح في اليوم السابع» (1986). وفي الأردن تتلامح بيروت في روايات مؤنس الرزّاز في محطّات من شخصيّات رواياته، مثل عماد وكفى في رواية «أحياء في البحر الميّت» (1982) حيث أَحيت قدرةُ المدينة عجزَ عماد، ومثل أحمد في رواية «اعترافات كاتم صوت» (1986)، ومثل عبد الله ورفاقه في رواية «مذكّرات ديناصور» (1994)، حيث وجدوا في بيروت واحة سعادة ملغّمة. ويبقى التميُّز لرواية «قامات الزبد» (1981) لالياس فركوح، فبيروت هنا هي ضمير التاريخ، وهي اللّسان/ اللّغة، لكنّها غائبة عن ذاتها المتشظّية.

على هذا النحو تومض بيروت الحرب في روايات المَغربي أحمد المديني «المخدوعون» (2005)، والجزائريّة فضيلة الفاروق «أقاليم الخوف»(2010)، والتونسي محمّد علي اليوسفي «بيروت نهر الخيانات» (2002)، وسواء أكانت الومضات خاطفة أم تعدَّدت فإنّ العنف يظلّ يُكسّرها.

تلك هي بيروت في المرايا المتكسِّرة لعشرين رواية عربيّة. وقد استثنَيتُ ما كان لبيروت في الرواية اللّبنانيّة، لأنّه قيل فيه الكثير الأوفى، كما استثنَيتُ ما كان لبيروت في الرواية السوريّة لأنّني كتبتُ عنه في مَقامٍ آخر. وقبل وبعد كلّ ذلك تظلّ لبيروت قيامتها في الرواية كما في الحياة.

*روائي وناقد من سوريا

** ينشر بترتيب مع مؤسسة الفكر العربي