أعمدة

حروب صغيرة داخل الكارثة

27 أكتوبر 2020
27 أكتوبر 2020

أمل السعيدية

 

داخل الحروب والكوارث الكبرى، عادة ما نفكر أن لا مكان للمعاناة الشخصية وكأن الحياة الاجتماعية بتعقيداتها المختلفة تتوقف فجأة عن تدفقها المستمر بالتعقيد نفسه، بل التعقيد ممزوج بالفاجعة، وفي حالات متطرفة أخرى نمسخ صورة شعب يتعرض لمعاناة من هذا النوع، لصورة لا يظهر فيها إلا في سياق مواجهة الكارثة، ولا نتوقع منه أن يصارع تحديات أخرى قد تكون أكثر إيلامًا بالنسبة له. سعى الفن والأدب في مراحله الزمنية المختلفة، وإن كان مشغولًا في هذا المجتمعات بالتحولات الاجتماعية الكبرى جراء هذه الكوارث إلى التماس مع الحالة الشخصية للإنسان، وهمومه العادية التي لا يوقفها شيء حتى الفاجعة في أقصى تمثيلاتها. كتب المدون الفلسطيني محمود عمر وهو في مخيم رقم ٧ في غزة عن أمنيته في ألا ينسى همومه الذاتية في ظل هم الاحتلال الكبير، فهذه هزيمة أخرى ساحقة إذا ما استسلم لها.

وفيلم السيناريست والمخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي "حروب صغيرة" الذي بث مؤخرًا عبر نتفليكس الشرق الأوسط، يعد نموذجًا لهذا النوع من الإنتاج الفني. صور الفيلم عام ١٩٨٢م في بيروت التي كانت ترزح تحت وطأة الحرب ويحكي قصص ثلاث شخصيات رئيسية تتقاطع مصائرها في بيروت المنكوبة والمحطمة عام ١٩٧٥م في بدايات الحرب الأهلية، وتمثل شخصية ثريا التي لعبت دورها الممثلة ثريا خوري، شخصية شابة تودع عائلتها التي تقرر الهجرة إلى فرنسا جراء التحولات التي يمر بها البلد، إلا أنها تصر على المكوث في بيروت متذرعة بدراستها الجامعية، في الوقت الذي تكون فيه ثريا مرتبطة بعلاقة عاطفية متينة بشاب آخر هو طلال، تقرر أن تبقى لأجله. طلال شاب يختلف عن عائلته وعن صراعاتها المتوارثة على الحكم في "البقاع" وسلطة ذويه، ولا يريد سوى التسكع في بيروت المدينة برفقة أصدقائه، ويجد نفسه منفصلًا عن عائلته، لكن اختطاف والده يضطره للعودة إلى هذه العائلة والوقوع أسيرًا لصراعاتها. في فترة بُعد طلال عن ثريا، تتعرف هذه الأخيرة إلى شخصية المصور نبيل، الفنان الذي لم يعد يجد وقتًا لأعماله الفنية بسبب طلبات صور توثق الحرب وآثارها، إلا أنه يجد نفسه متورطًا عند تاجر مخدرات باتهامه نبيل التصرف ببضاعته التي تكلف آلاف الدولارات. فيهرب نبيل طوال الوقت من هذا التاجر وأتباعه ليقع في حب ثريا. تعيش هذه الشخصيات الثلاث تحدياتها الشخصية بينما تلقي الحرب الأهلية اللبنانية ظلالها الحزينة والمهزومة على مسار هذه التحديات. يقدم هذا الفيلم الواقع نفسه الذي نقلته الروائية اللبنانية رينيه الحايك في روايتها صلاة من أجل العائلة والصادرة عام ٢٠٠٧م التي تصور حياة امرأة وماضيها الممزق، لاختطاف والدها في الحرب، ومزاجات بيروت التي توجه علاقتها بذاتها وبالعالم من حولها. حتى التحديق المستمر في وجوه الغرباء الذي أتقنته البطلة في هذه الرواية، هو امتداد للبحث القديم عن الأب المفقود والروح المفقودة والمعذبة التي تخلقت في أجواء بيروت الكارثية. وتتعرض الرواية لتفاصيل صغيرة وشخصية من قبيل عبود الأخ الذي هاجر للسعودية وصار يتحدث بلكنة غريبة، أو الأم التي تذهب لأمريكا، وتتابع هبوط الليرة اللبنانية المستمر ومصير عائلتها.