أفكار وآراء

نحو تنسيق وتعاون عربي متزايد!!

26 أكتوبر 2020
26 أكتوبر 2020

د. عبدالحميد الموافي -

بالرغم مما تعانيه الدول العربية من مشكلات وخلافات ومواجهات، مباشرة وغير مباشرة، ومن منافسات مكتومة تعبر عنها أحيانا التحركات والتلميحات لهذا الطرف أو ذاك، بغض النظر عن المواقف الرسمية المعلنة، الا انه يمكن القول إن هناك بعض الإرهاصات، أو البشائر الإيجابية، التي تتوق إليها شعوب المنطقة التي تتطلع إلى السلام والاستقرار وبناء حاضرها ومستقبلها على النحو الذي تريد، وبما يحقق مصالحها وأولوياتهاهي.

ومع الوضع في الاعتبار أن تلك الإرهاصات والبشائر لا تزال في حاجة إلى وقت لكي تنضج وتتحول إلى تحركات عملية ملموسة وجادة، وقادرة على التأثير الحقيقي والفاعل في مجريات الأوضاع في المنطقة، إلا أنه ليس مصادفة أن تتجمع عدة مؤشرات من أبرزها على سبيل المثال لا الحصر التوجه السعودي القوي والمعلن بشأن الرغبة في حل الخلاف مع قطر، والاستعداد القطري المقابل لذلك من ناحية، وتبادل الأسرى بين جماعة أنصار الله وحكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي ويقين كل الأطراف بأهمية وضرورة إنجاح جهود المبعوث الدولي جريفيث الساعي إلى تحقيق السلام في اليمن من ناحية ثانية، وتوقف القتال والمواجهات العسكرية في ليبيا وتعدد لقاءات التفاوض بين مجلس النواب في طبرق والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس، ولقاءات الخبراء العسكريين (مجموعة 5+5) بين طرفي النزاع والاتفاق على بعض النقاط المشتركة بين حكومة السراج ومجلس النواب في طبرق، والأهم هو استمرار جولات التفاوض بين الجانبين في المغرب ومصر وسويسرا والتوصل لاتفاق لوقف دائم لإطلاق النار، من ناحية ثالثة، مع حدوث اتصالات مصرية تركية -لا تزال في بداياتها - لإعادة بناء الثقة واستكشاف سبل التغلب على الخلافات بين القاهرة وأنقرة والتي تشمل في الواقع عدة ملفات، ثنائية وإقليمية من ناحية رابعة، ثم كانت اللقاءات والاجتماعات التي جرت في القاهرة قبل نحو أسبوعين بين وزراء خارجية مصر والأردن والعراق، والتي أكدت على عزم الدول الثلث دفع وتعزيز التعاون والتنسيق فيما بينها في مجالات مختلفة.

وإذا كانت كل تلك الإرهاصات والبشائر لا تنفصل في الواقع عن مجمل التطورات التي تشهدها المنطقة في الآونة الأخيرة، عربيًا وإقليميًا ودوليًا كذلك، فإنه يمكن التوقف قليلًا أمام اجتماعات وزراء خارجية الأردن ومصر والعراق في القاهرة يومي 12 و13 أكتوبر الجاري، ليس فقط للأهمية التي تمثلها هذه الاجتماعات، ولكن أيضًا لأن الإرهاصات والبشائر الأخرى التي تمت الإشارة إليها لا تزال في حاجة إلى وقت ومزيد من الجهد والعمل على مستويات متعددة، ثنائية ومتعددة الأطراف، إقليمية ودولية أيضا، لتتبلور في خطوات عملية محددة تضع المشكلات المرتبطة بها على طريق الحل العملي وبتوافق يمكن أن يحقق مصالح مختلف الأطراف وينعكس إيجابيا على أمن وسلام واستقرار المنطقة كما سبقت الإشارة.

وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى بعض الجوانب لعل من أهمها ما يلي:

أولا: إن اجتماعات القاهرة لم تقتصر على اجتماعات وزراء الخارجية، المصري سامح شكري والأردني أيمن الصفدي والعراقي فؤاد حسين معًا، ولكنها شهدت استقبال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لكل من وزير الخارجية العراقي، ووزير الخارجية الأردني، كل على حدة، وكانت هذه لفتة تعبر عن الاهتمام المصري الكبير وعلى أعلى المستويات بالعلاقات مع العراق والأردن الشقيقين، كما التقى كل من الوزيرين الأردني والعراقي مع أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي استقبل كلا منهما على حدة.

وفي الوقت الذي تناولت فيه الاجتماعات العراقية-الأردنية-المصرية العديد من التطورات على مستوى المنطقة، فإنها تركزت على ما يتصل بالتنسيق والتعاون بين الدول الثلاث في مجالات غلب عليها التعاون الفني العملي في مجالات غير سياسية مثل الطاقة والكهرباء والبنية الأساسية والنقل والتجارة والمشروعات المشتركة بين الدول الثلاث.

ولعل ما يزيد من أهمية بحث التعاون والتنسيق بين الأردن والعراق ومصر في المجالات المشار إليها وغيرها، أن الدول الثلاث لها رصيد وتجارب سابقة في التعاون فيما بينها قبل عقود وسنوات عديدة، على المستوى الثنائي، وعلى المستوى المتعدد الأطراف، سواء قبل قيام مجلس التعاون العربي الذي ضم الدول الثلاث واليمن عام 1989، أو بعد تفككه في أعقاب الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس 1990. وعلى ذلك فإن اجتماع الوزراء الثلاثة كان على الأرجح أقرب إلى اجتماع المتابعة وتطوير التعاون والتنسيق بين الدول الثلاث في المجالات غير السياسية.

ويزيد من أهمية ذلك أن الاجتماع ليس الأول بين الوزراء الثلاثة من ناحية، كما أنه يأتي في أعقاب القمة الأردنية-المصرية-العراقية التي عقدت في الأردن وضمت كلا من الملك عبدالله بن الحسين والرئيس عبدالفتاح السيسي ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وذلك في أغسطس الماضي، والتي تمخضت عن التوقيع على عدد من مذكرات التفاهم لتعزيز التعاون والتنسيق بين الدول الثلاث في مجالات عدة من ناحية ثانية، خاصة أنه من المرجح أن يعقب ذلك اجتماعات فنية وزارية وعلى مستوى الخبراء بين الدول الثلاث لدفع وتطوير خطوات التنسيق والتعاون بين الدول الثلاث في مجالات الطاقة والكهرباء والتجارة والبنية الأساسية والدواء والغذاء وإعادة الإعمار في العراق أيضا، ومما له أهمية ودلالة أنه تم التركيز على تلك الجوانب خلال المؤتمر الصحفي المشترك بين وزراء الخارجية الثلاثة يوم 13 أكتوبر الجاري بالقاهرة، حيث رحب وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين بالدور المصري والأردني في عمليات إعادة الإعمار في العراق.

ثانيا: إنه في الوقت الذي تلتقي فيه الدول الثلاث في مواقفها ورؤيتها حيال العديد من المشكلات والقضايا العربية، بما في ذلك القضية الفلسطينية، وأهمية وضرورة التعاون والتكامل العربي على نحو يخدم المصالح المشتركة والمتبادلة والاستقرار في المنطقة، فإن الأوضاع والظروف التي تمر بها المنطقة العربية تفرض التعاون والتنسيق المتزايد بين الدول الثلاث في مختلف القضايا وعلى كافة المستويات أيضا، ولكن بهدوء ودراسة متعمقة لكل الخطوات، وبعيدا عن الشعارات أيضا.

وعلى ذلك فإنه في الوقت الذي يسعى فيه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى تأكيد رغبة وحرص العراق على تطوير علاقاته وتعاونه مع كل جيرانه ومع الدول الشقيقة والصديقة، بما يحقق مصالح العراق وأمنه واستقراره، فأنه أكد هو والرئيس العراقي برهم صالح كذلك على أنه لن يتم السماح بأن تكون الساحة العراقية ساحة مفتوحة لتصفية أي حسابات على حساب العراق وأمنه وسيادته، وفي هذا المجال تجري العديد من الخطوات والتحركات داخل العراق وفي علاقته مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية للتأكيد على ذلك، ومنها على سبيل المثال أن مستقبل القوات الأمريكية في العراق، وحماية البعثة الدبلوماسية الأمريكية في بغداد، كانت مجال بحث بين الجانبين العراقي والأمريكي، خاصة أن واشنطن أكدت رغبتها في سحب قواتها المتبقية في العراق. ومن جانب آخر فإنه كان لافتًا للانتباه أن يتم التأكيد على هذا البعد -ألا تكون الساحة العراقية مجالًا لتصفية الحسابات- خلال زيارة وزير الخارجية اليوناني يكوس دندياس للعراق يوم 14 أكتوبر الجاري، خاصة أن رئيس الوزراء العراقي تلقى دعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لزيارة تركيا، وقد تزامنت هذه الدعوة مع زيارة وزير الخارجية اليوناني لبغداد.

من جانب آخر فإنه في الوقت الذي تواجه فيه مصر تحديات عدة، سواء فيما يتصل بالتطورات المتعلقة بمفاوضات سد النهضة المتوقفة مع إثيوبيا، والأوضاع في ليبيا وجهود الحل السياسي الذي تدعمه مصر بقوة وبما يحافظ على وحدة ليبيا واستقلالها وسحب الميليشيات الأجنبية والإرهابية منها، ووقف التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، فإن المملكة الأردنية الهاشمية تواجه بدورها تحديات وأعباء تمسكها والتزامها بدورها القومي المعروف والمتواصل حيال الأشقاء الفلسطينيين وحماية المسجد الأقصى المبارك، ولم تكن مصادفة أن يؤكد الأردن معارضته القوية لأي محاولات إسرائيلية لضم أراضٍ في الضفة الغربية المحتلة ولاستمرار الاستيطان فيها وهو ما أثار حنق إسرائيل بشدة في الآونة الأخيرة، وقد ازدادت أعباء الأردن بعد استقباله مئات الآلاف من اللاجئين السوريين وتوقف مصادر تمويل كانت داعمة له من قبل، ومن ثم فإن التنسيق والتعاون الثلاثي بين العراق والأردن ومصر يمكن أن يكون أحد أهم المداخل العملية وذات الفائدة لتحقيق مصالح كل من الدول الثلاث، خاصة في مجالات عملية تتطلب العمل على الأرض وهو ما تؤكد عليه الدول الثلاث بهدوء وإصرار أيضا.

ثالثا: وإذا كانت اعتبارات المصالح العملية، السياسية وغير السياسية أيضا تدفع الدول الثلاث نحو العمل الجاد لتطوير التنسيق والتعاون فيما بينها، والاستفادة كذلك من دروس الماضي، فإنه ليس من المبالغة في شيء القول بأن الأردن والعراق ومصر لا تسعى إلى إعادة تجربة مجلس التعاون العربي، ولا إلى تشكيل محور جديد في السياسة العربية، ليس فقط لأن الدول الثلاث لا تؤمن بسياسة المحاور، ولا بالشعارات التي تجاوزها الزمن، ولكن أيضا لأن الدول الثلاث قادرة على قراءة الواقع العربي الراهن بشكل موضوعي، وما يعتمل في السياسة العربية من تفاعلات ومحاولات تدخل سافرة من هذا الطرف الإقليمي أو الدولي أو ذاك، غير أنها تدرك في الوقت ذاته أنها قادرة من خلال تعاونها معًا بشكل عملي ومتزايد على خدمة مصالحها المشتركة والمتبادلة، ومن ثم التعاون بشكل أفضل وأكثر فعالية مع ما تتعرض له كل منها من تحديات مباشرة وغير مباشرة، هذا فضلًا عن أن الدول الثلاث كثيرا ما مثلت قوة لا يستهان بها في السياسة العربية عندما تلتقي معًا وتعمل معًا، وهو ما تفرضه التطورات الراهنة والتي قد تشهدها المنطقة خلال الفترة القادمة أيضا، وإن غدًا لناظره قريب.