أفكار وآراء

الــــــروح والتحولات الاجتماعية

25 أكتوبر 2020
25 أكتوبر 2020

خميس بن راشد العدوي -

الروح.. ذلك الأمر الإلهي الذي جعل هذا الكائن الحيواني بشرا سويا، انتشله من قطيع البهيمية وحضيض الترابية، ليعرف نفسه وربه. الروح.. التي تلملم شظايا النفس، وتفتح مغلقات العقل، تبني على حواف الانهيارات مستودعا ومستقراً، وتعود بالذاكرة إلى الوراء ليغامر الإنسان في اكتشاف المستقبل.

الروح.. هي سر النفخة الإلهية، والبرنامج الذي لم يستطع العقل أن يفك شفرته، العقل تاه في البحث عنه داخل تلافيف الدماغ، وبين أحشاء الجسد، تفلسف ليعرف سره فلم يفلح، وتواصل مع قوى الوجود فلم تسعفه، سجد في محاريب الأديان، وتبخر بطقوس المعابد، ولم يزدد بالروح عِلماً، تمسح بهياكل الأساطير، وصنع صروحاً ممردة منها لعله يبلغ سماء الروح، فرجع البصر خاسئاً وهو حسير، ولم يستطع أن يمسك بهذا السر الأزلي.

وكما لم تسعف العقلَ الفلسفةُ والأديانُ؛ انكسرت نفوس المتصوفة أمام هذا السر الإلهي، وهبطوا من مراقيهم الوجدانية ومعارج أذكارهم إلى طقوس مجدبة من لمسات الروح وحنينها الفطري، أداروا رؤوسهم مع تمتمات ألسنتهم في فراغ الحلقات، لا يمسكون بشيء، ولا يقدرون على شيء.

ثم جاء العلم تجره خيلاء الاكتشافات والمخترعات، وكان ثاني عطفه أن أنكر الروح، وطفق يبحث في جواهر الذرات، لعله يجد بديلاً لهذه القوة الكونية التي تملأ الوجود من ذراته إلى مجراته، فلم يجد إلا موجات وفوتونات، تارة يثبتها وأخرى ينفيها.

والإنسان بين مد الأديان والعلم وجزرهما، وبين تأويل الفلسفة وشطحات التصوف، يعمر الوجود، إنه فعلاً يعمر الوجود بالروح، لم تكن حاجات الجسد داعية إلى إشادة عجائب الحضارات، ولم تكن طبلة الأذن محتاجة إلى سمفونيات بتهوفن الرائعة، ولا بؤبؤ العين يستدعي جماليات رسامي عصر النهضة، ولا أحد يتصور أن صحراء العرب المقفرة يمكن أن تبدع المعلقات التي ازدانت بأن تكون على جيد بيت الله. إن من يقف وراء ذلك هي الروح.

الروح.. ولا شيء غيرها.. وراء كل جمال في الوجود، إنها تحوّل الوردة التي تشققت من أديم الأرض المغبر إلى طيف مورق بين حنايا النفس، وتمسي العيون الخجلى نبضاً يناغي شغاف القلوب، الروح.. وحدها من تجعلنا أوفياء في الزمن المجدب بالانكسارات، وحدها من تدفع بنا للتضحيات في وقت تآكلِ الذمم والضمائر، وهي من تقول للتراب: وطني المقدس، وللعدالة: العهد الذي يهلك من يخونه.

الروح.. هي الموجود الذي يُبصِر ولا يُبصَر، والحقيقة المستعصية على الدحض، والبناء غير القابل للانهيار، تماماً مثلما أنها السر الذي لا ينكشف. إنها نفخة الله، وهي وحدها الدليل إليه، فلا يليق أن يكون الدليل إلى ذي الجلال إلا الروح، إن الله تعالى عن إدراكه بالأبصار، وانثنت عند حدود عظمته العقول، وكلّت عن السير إلى حضرته النفوس، ولم يسعف القلوب خفقانها أن تطير إلى ملكوته؛ فكيف لها أن تكون دليلاً عليه؟!. لم يكن دليلاً إلى الله إلا الروح، لأنها نفخته التي لم يشملها قانون التطور، فالتطور مادة تحرك المواد، أما الروح فليست بمادة، فهي وحدها الدليل إلى الله المتعالي عن كل الماديات.

الروح.. لا تنطفئ ضوؤه، ولا تخبو شعلته، وهذا ما يجعل الله حاضراً في نفوسنا، والحبَ يملأ فراغ وجداننا، والإيمانَ يمدنا بأمل نحو الخلود، وبخير لا يشوبه الشر، وبعطاء غير مجذوذ، أليس هذا الأمل هو ما تحتاجه النفس في زمن التغيرات الكبرى؟.

الروح.. لا تسكن العقل وحده، ولا تغمر النفس وحدها، ولا تهيمن على الجوارح فقط، الروح.. تسري في كل هؤلاء. وكان لزاماً ربانياً على الروح كما أنها تطلق الطاقات الكامنة في الإنسان؛ أن تمده بمبدأ الحرية، لأن بالحرية يستقيم العدل، وعلى ميزان العدل رفعت السموات ووضعت الأرض. الحرية والعدل.. جناحا الروح للوصول إلى الله، ولإعمار الوجود، ولتحقيق الاستخلاف الإلهي.

على جناحي الحرية والعدل أن ينظّما حركة العروج إلى الله، وليس ثمة عروج إلا عبر سلّم الأخلاق، فبهذا السلّم وحده يستقيم عمران الأرض، وهو الجسر بين أطواد البشر، وهو الطريق في دروبهم الرحبة.

كل ما نراه من إخفاق في حركة النفس البشرية هو من عدم قدرتها على ضبط حركة جناحي الحرية والعدل، فعندما يكون جناحاً مهيضاً تميل النفس فيختل الميزان، أما عندما يستقيم الأمر يُسفر الروحُ داخل النفس سفوراً يدفع إلى كل خير دون أن يخلع سربال سر أسراره، هكذا هي الروح، وهكذا هي عملها.

وبعد.. فليس التغيرات الاجتماعية إلا سعيا نحو الحرية والعدالة. الرغبة في التغيرات تأتي عندما يضعف عمل هذا النظام الروحي، فتدخل المجتمعات في نفق الانسداد، فالمجتمع يستقر إذا ساده العدل والحرية، وهما أمران لا يجوز تعطيلهما، ولا الحيف في ميزانهما، ولا يستقيم المجتمع بدونهما، فإذا صودرا من المجتمع تفرقت بالناس السُبل، وذهبت بهم أيدي سبأ. ثم يعمل قانون الاجتماع عمله في تفاعل كيميائه نحو التغيير، وأياً كان هذا التغيير ونوعه فلابد له من حضور الحرية والعدالة فيه، ولن يحضرا إلا بحضور الروح بين أفراد المجتمع، ولذلك.. نرى أشواق الناس الروحية تزهر في لحظات التغيير الاجتماعية الحاسمة.

والحرية.. قبل أن تكون فعلاً اجتماعياً هي حركة داخل النفس، فعلى الروح أولاً أن تحررنا من ذواتنا، وأنانيتنا، وخدائعنا، وصنميتنا. الروح.. لا تنتعش في ذات منغلقة، وهي خصم للأنانية، والروح.. ليست غِباً والغِب لا يخدعها، وهو كافر بالأصنام مهما كانت جاذبيتها آسرة.

التغيرات الاجتماعية.. ليست جديدة على البشرية؛ فهي سنة ماضية فيها، وهي الحكمة الأزلية لتحقيق العمران في الأرض، لقد مرت فترات تنبثق فيها الحضارة كل مرة كأن لم تكن من قبل، وذلك لأن الروح كما لا يمكن حصر أزمنتها؛ لا يمكن تحديد عظيم تجلياتها. حين يحين التغيّر النوعي في الأمم السالفة كان يظهر فيها الأنبياء ليتوهج الإيمان بأقوالهم وتتفاعل الأعمال بأخلاقهم، فتنبعث الروح من أعماق النفس لتظهر عبر أفعال الإنسان وأقواله حضارة كونية جديدة. أو يأتي الفلاسفة ليكشفوا عن إمكانات الروح المخبوءة داخل النفس فتتفاعل مع معطيات الواقع. وبين هذا وذاك يُعاد ضبط لحن الحياة بتوق الناس للحرية والعدالة، والأمم التي تعرف هذه الحقيقة وتوقن بها تملك زمام الحضارة، وتتصدر مدنية وقتها.

واليوم.. نحن في لحظة حاسمة من التغيّر الاجتماعي.. يظهر في الانفجار المعرفي الهائل، وفي التنافس الاقتصادي المحموم بين الدول، وفي التململ الاجتماعي من الأنظمة القديمة؛ سواءً أكانت سياسية أو اقتصادية أو دينية أو معرفية، وهنا ستعمل الروح عملها في الفرد والجماعة، ولكن حظ الزمن الراهن أنه لا وجود لأنبياء ولا فلاسفة، ولا أمل قريبا لظهورهم، فالنبوة بالأساس قد خُتمت، والفلسفة أخشى أن تكون قد عقمت، والروح تتصاعد في حث البشرية على التغيير، ولابد من ضبط كفتي ميزان الروح: الحرية والعدالة، فمن لذلك مع ختم النبوة وغياب الفلسفة؟.

الوضع حرج، والمستقبل ضبابي، وخارطة المستقبل لم تتضح معالمها، ولكن الروح موجود غير قابل للموات، طالما أنه نفخة إلهية، إن الروح المتكفلة بدفع الناس إلى التغيير هو ذاته من سيتكفل بضبط تمظهره في الاجتماع البشري، نعم.. الروح ذاتها لم تكن وليدة التطور إلا أنها تسايره؛ لأنها تعمل فيه وله، ولا تقفز به قفزاً في سماء لا عَمَد لها. علينا أن نثق بالروح لأننا واثقون بالله، وأن نرمم أنفسنا بالروح فلا ندع مسارات الطريق تتجشم بنا في مهالك قد تودي بنفوسنا وبمجتمعاتنا، علينا أن نهذب وجداننا بالروح، وأن تسترشد عقولنا به، علينا أن نتصل بالله دون وسائط من البشر والأوهام والأصنام، وأن نتأدب بالأخلاق، وننحاز للحرية والعدل، حتى نجد الله قريباً منا، وتكون الحياة حياة لنا.