الثقافة

مقامات..حياتيات

25 أكتوبر 2020
25 أكتوبر 2020

فاطمة الشيدي

١.

أخرج من البيت هذه الأيام بتثاقل كبير وخوف أكبر، وما أن أسلم خطواتي أو عجلات السيارة للشارع الخائف حتى تتداعى الصورة الكونية المرعبة في رأسي؛ فعامل المحطة الطيب يرتدي كمامة، والجار الخمسيني المتأفف دائما يرتدي كمامة، والمرأة سليطة اللسان التي يهتز الشارع لخطواتها ترتدي كمامة، والبريستا النحيلة، وبائع الخضروات المسن، والجميلة التي تركض في كل وقت، والنادل بابتسامته الخجولة، والشرطي الذي يرتعب الشارع ومن فيه من أوراقه الجاهزة لحصاد أموالهم كلهم يرتدون الكمامات.

بل كأن الشارع، والأشجار والسيارات، وصرخة الطفل الخائف في يد أمه كلهم يرتدون كمامات.

وما أن أذهب في فتنة الوجع والمخيلة حتى أشعر أن الحزن الذي يسكنني وأكتب عبره يرتدي كمامة، وأن الصمت الذي يحزني في الحنجرة يرتدي كمامة، وأن النخلة التي أبدأ يومي من وجهها الطيب ترتدي كمامة، وأن النهار، والبائع الجوال، والرجل المسن في فراشه، والنحلة في المزرعة المليئة بالعسل، والفراشة في الحديقة، وصورة الأب على الطاولة، وصورة الصغيرة قرب السرير، والنافذة، والبحر، والصورة في البطاقة الشخصية، وقلب الحبيب؛ كلهم يرتدون كمامات.

تتملكني الرهبة فلم أعد أستطيع أن أتعرف على أحد، فالجميع متشابهون تقريبا إلا من بريق الخوف في العيون التي بدت جميلة جدا خلف أقنعة التخفي؛ فأشعر أن كل شيء أصبح لا مرئيا ككورونا اللعين فأعود مسرعة للبيت؛ الوحيد الذي لا يرتدي كمامة فيأخذني بدفئه وحنانه، وحين يدلف الليل مصقولا تحت ستارة الظلام يغمز للكون بسر الوجود الجديد وعدم خوفه هو ، وهناك أبتسم وأنا أقرأ سر عريه المجيد وحلكته الدافئة.

٢.

في فترة بعيدة في الزمن استحدثت مع صديقة عزيزة جدا، ثم مع أخواتي لاحقا فكرة (التشكي) أو الشكوى، وهي محاولة للفضفضة، فكلما شعرت بالتعب والامتلاء من ضغوطات الحياة وتعبها، أتصل بها (نحتاج جلسة تشكي) حيث تفرغ كل منا ما في جوفها من أوجاع، وتنفض بين يدي الأخرى حصيلة أيامها من التعب والخسارات والمنغصات، لندرك أنها (أي الأوجاع) لا شيء أو أنها عادية جدا، ولكنها فقط تحتاج من تخرجها، لتسمعها بصوت عال، أو تنظر إليها من مسافة ما، لتتخلص منها لاحقا بسهولة.

تماما كما كنت ولا زلت أحب الجلوس في ردهات المولات المخصصة للأكل، هناك حيث الضجيج والصخب، وكلما شعرت بالضيق والكآبة أذهب لهناك وحيدة أو برفقة أحد، لأفرغ همومي في وجوه الناس، وأفرغ صوتي في أصواتهم، وأتحسس ما يضجرهم مثلي ولو عن بعد، وأخرج لاحقا براحة نفسية.

وقد نلقي بهمومنا على قارعة الطريق ونحن نمشي، أو في وجه المرآة ونحن نتبرج، أو في كوب القهوة حين يعز الصديق الصدوق، وأحيانا نكتب ما نشعر به. أو نتحايل على تفريغه بشكل ما يشبه (التشكي) الذي هو حالة يحتاجها الجميع!!

فهل أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تقوم بهذا الدور، هل (كواكب الوحيدين والغرباء)/ .. هي مجال حالة (التشكي) الجديدة لأن الأصدقاء أصبحوا كالغول والعنقاء فعلا. وأصبح الجميع مشغولا بحاله وظروفه!

وهل كلمات المواساة والمؤازرة المكتوبة مثل : (سلامات وما عليك شر .. وقلبي معك) تسد مسد قلب يخفق أمامك، ويد تمسح دمعك، وروح تتشرب همومك وتخففها حتى تصدقها أنت وتنفض في نهاية الجلسة كل ما حضرت به ثقيلا متعبا! أم هي مجرد محاولات بائسة لنقول أننا ما زلنا أحياء أيها العالم؟!

٣.

طالب معرفة هو تعريف يضعه رفيق الحياة في صفحته في الفيسبوك كتعريف له، وهو كذلك فعلا، أما أنا فعندما أتأمل ذاتي ضمن هذا التعريف أجدني طالبة جمال ومحبة، الجمال الذي يبدأ من الجسد وينتهي في الروح والعكس صحيح أيضا، ولذا _وعكس بعض المرضى في الحياة الذين يحاولون تكسير مجاديف الذين يتفوقون عليهم في موهبة ما أو يسبقونهم خطوات في الطريق_ أنبهر بكل ما لا أستطيع، وأثمّن عاليا ما يفعله أولئك المميزون، ولذا أجدني في مواقع التواصل أتابع أصحاب الفعل الجميل الذين يبدعون فيما يقدّمون من فعل جمالي أكثر من الثرثرة والكلام الذي نسرف فيه نحن الكتاب.

أحب من يعمل بيديه من رسامين وموسيقيين ومزارعين ومهندسي ديكور ومدربات يوجا وفنانات مكياج وأحظى بمتعة وافرة في متابعة صفحاتهم المليئة بالجمال والطاقة الإيجابية والسلام الداخلي.

٤.

يغشاني الفرح حين أجد رجلا شرقيا -قبل أي صفة أخرى ككاتب أو فنان-يفخر بزوجته، يكتب عنها، يضع صورتها في حدث ما، يجلُّ تكريما تحصّلت عليه، أو يقدّم عملا أنجزته.

وأقول الزوجة تحديدا لأنها الشرف والعرض كفكرة تافهة يقدمها المجتمع الشرقي المريض فلا يستطيع الرجل تجاوزها، بينما قد يستطيع البعض تجاوز حضور الأم والبنت، وتقديمها إلى جانبه امتنانا وحنانا.

أفرح بصدق أن ثمة رجل شرقي غادر منطقة الظل التافه للعادات والتقاليد المريضة في مجتمعنا المقصي للمرأة بوصفها عورة أو ظل أو هلام علينا أن نعبره بخجل، ونكون معه في الخفاء الإنساني فقط، أو مع الأقربين والمحارم.

رجل اتحد بإنسانيته الحقيقية، وارتقى بذاته لمدارجها الطبيعية منتشلا إياها من قاع التبعية والخوف والجهل، ومحررا لها من عبودية القيد العرفي، وقبلها محاكما ومواجها لأطرها المريضة ومنطلقاتها الجامدة.

أفرح لأنني أجد أملا أن يحذو حذوه جيل قادم، وأن تتحرر هذه العقول والمجتمعات من داء المرأة العورة، ومن فصام الرجل الشرقي.

أفرح لأن ازدواجية الإنسان العربي في كل شيء والتي هي سبب تأخرنا المريض هذا، وعنصريتنا المقيتة؛ ستتراخى قليلا، وتتراجع خطوة ما. ولأن كل حل يبدأ من تصالح الإنسان مع ذاته، ومن تحقق وعيه الداخلي والذاتي والشخصي أولا وقبل كل شيء.

أفرح لأن ثمة أمل في زمن السقوط هذا، وثمة حلم صغير يوازي ضوء شمعة في عبور النفق يوما ما.