أفكار وآراء

عربيا.. السكان والموارد والخدمات أبرز تحديات التنمية

24 أكتوبر 2020
24 أكتوبر 2020

د. عبدالعاطي محمد -

تصبح قضايا السكان والموارد والخدمات الأساسية في مقدمة جدول أعمال الحكومات العربية المختلفة خلال السنوات الخمس المقبلة على أقل تقدير حتى يستعيد الاقتصاد بكل مصادر قوته عافيته. ويحتاج الأمر إلى مراجعة لكل خطط التنمية العربية. وذلك يعد من علامات الاستقرار الحقيقي بغض النظر عن استمرار الأزمات السياسية الساخنة.

في كل بقاع العالم أدت جائحة كورونا إلى تراجع كبير في معدلات التنمية فدخل بعضها في حالة من الركود الاقتصادي والبعض الآخر في حالة من الانكماش، ولم تشر التقارير الدولية الموثوقة إلى أن الأوضاع ستتحسن كثيرا في العام 2021. ولم تشذ المنطقة العربية عن هذا الوصف، بل ربما كان نصيبها وافرا للأسف من حيث الخسائر الاقتصادية أو التنموية عموما، لأن الجائحة ضاعفت من حجم تحديات كانت قائمة قبلها بالفعل، تتعلق بالمشكلات السكانية وضعف الموارد وتراجع الخدمات الأساسية. ومع أن الخسائر توزعت نسبيا بين الدول العربية كل بقدر قدراته الذاتية وحكمة توجهاته التنموية، إلا أن الجميع عانى وسيعاني لسنوات من التداعيات الكارثية لهذه الجائحة.

ولأن القاعدة المعروفة لدى علماء السياسة تقول إن السياسة الخارجية تخدم دائما السياسة الداخلية، فمن المؤكد أن عديد الدول التي تضررت داخليا بشدة من الجائحة ومنها الدول العربية، حريصة على إعادة صياغة سياستها الخارجية بما يتطابق مع السياسة الداخلية في مواجهة تداعيات الوباء، ولذلك لا يصبح غريبا أو مفاجئا أن تتغير الصداقات والتحالفات الدولية بشكل مختلف عما كان قائما قبله بالنظر إلى أن ذلك من متطلبات العمل السريع على تجاوز هذه التداعيات التي هزت أركان منجزات التنمية.

ولطالما كانت النظرة للسكان مختلفة بين المعنيين بالأمر، فالمتشائمون غالبا ما كانوا يعتبرون السكان عاملا معوقا لتحقيق التقدم السريع والحاسم استنادا إلى أن أي زيادة سكانية كفيلة بالتهام ثمرات التنمية، والمتفائلون غالبا ما كانوا يرون العكس، أي اعتبار السكان عاملا مهما في زيادة الإنتاج حيث تتوفر القوى العاملة لأي مشروعات تنموية. ولكن هذه النظرة بشقيها: المتشائم والمتفائل لم تعد تعبيرا عن خطورة الكم في حد ذاته، وإنما عن الكيف في الاستفادة من العنصر البشرى. فالزيادة السكانية مرتبطة بالموارد من جهة وبحسن تحقيق التنمية البشرية من ناحية أخرى، أي أنها لا تسبب مشكلة أو معضلة طالما توفرت الموارد بمعدل نمو كبير يفوق هذه الزيادة، وتحقق تقدما مشهودا في التنمية البشرية. ولأنه وبحكم التجارب الإنسانية من الصعب تحقيق معدلات نمو اقتصادي كبيرة ومن الأصعب الحفاظ على هذا المستوى بات من المتفق عليه عالميا أنه كلما تراجعت الزيادة السكانية كلما حانت الفرصة لإحراز معدلات عالية من النمو الاقتصادي. وبالطبع فإن أكثر البلدان التي يتعين عليها إدراك هذه المسلمة، هي البلدان النامية أو الفقيرة حيث محدودية الموارد دائما. وفي القلب من هذه البلدان وطننا العربي غنية كانت أم فقيرة، تعداد سكانه صغيرا أم كبيرا.

وطننا العربي قفز قفزات كبيرة في معدلات النمو السكاني على مدى الزمن، فقد تم تقدير عدد سكانه في منتصف القرن العشرين بحوالي 76 مليون نسمة بمعدل زيادة سنوية 2.5%، وارتفع إلى 144 مليون نسمة في عام 1975، أي تضاعف العدد في 25 عاما فقط!. وفي عام 2000 تم تقدير العدد بحوالي 284 مليون نسمة بنسبة نمو 2،9% ليرتفع الآن (2020) إلى 377 مليون نسمة، أي زاد بنحو 93 مليون نسمة في 20 عاما فقط!. وفي الحقيقة لم تكن هذه الزيادات أمرا غريبا أو حتى مستهجنا، بالنظر إلى ارتفاع المستوى الصحي مما قلل من نسب الوفيات، وإلى ارتفاع معدلات الخصوبة، وإلى ارتفاع مستويات المعيشة عموما، وكلها كانت من واجبات الدولة الوطنية العربية بعد الاستقلال. ولكن المشكلة أن هذه الزيادات الكبيرة عاما بعد الآخر لم تقابلها زيادات أكبر منها في معدلات النمو الاقتصادي، مما جعل قضية السكان صداعا دائما في رأس الحكومات العربية المختلفة على مدى الزمن، خصوصا مع تعرض المنطقة لأكثر من أزمة اقتصادية إما نتيجة الفشل أحيانا في خطط التنمية أو انخفاض عائدات النفط والثروات المعدنية الأخرى أو لأسباب تتعلق بالفساد الإداري. وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة الشباب بين عامي 10 و 24 عاما تصل إلى نحو 28% من عدد السكان المشار إليه برقم 377 مليون نسمة. وهذه الكتلة الكبيرة تكاد تكون في حالة بطالة مقنعة أو صريحة بسبب الأزمات الاقتصادية التي تمر بها عديد الدول العربية. ومن الطبيعي في ظل هذا الحال أن تتوالى الاحتجاجات الشعبية في عدة بلدان تعبيرا عن الحرمان من العمل والخدمات الأساسية. ونظرة خاطفة على البلدان التي تعاني من الاضطرابات تؤكد الثمن الباهظ الذي تدفعه الحكومات بل والشعوب أيضا من جراء الزيادات السكانية المنفلتة مع التراجع الشديد في أحوال المعيشة نتيجة الأزمات الاقتصادية.

وقد زادت جائحة كورونا من الوقع السيئ لاستمرار الخلل بين الأوضاع السكانية والاقتصادية في منطقتنا العربية، وذلك لأنها جعلت من السكان ذاتهم خطرا مميتا على أنفسهم حتى لو كانوا في حالة معيشية مرفهة، وذلك بسبب قدرة الوباء على الانتشار السريع بين الناس. فأيا كان العدد أو الزيادة هناك كارثة إنسانية واقعة لا محالة تتعلق بمفارقة الحياة بسبب هذا الوباء الذي لم يكن ممكنا التغلب عليه سريعا نظرا لغموضه. أي أضافت هما جديدا على الهموم المرتبطة في الماضي بالزيادة السكانية. والمعني هنا أنه بينما كانت الحكومات العربية تكافح من أجل تحقيق التوازن بين النمو السكاني والاقتصادي، إذا بالجائحة تهدد الجميع مرضى أو أصحاء، وتوقف دورة الحياة اليومية بما يعني ضرب كل مصادر الموارد في مقتل!. ومن جهة أخرى لم يعد واجب الحكومات توفير سبل العيش لأعداد متزايدة من السكان وكذلك توفير الرعاية الصحية المعتادة، وإنما التكفل بتوفير المستشفيات والأطقم الطبية لعلاج الآلاف من المصابين كل يوم مما شكل عبئا ماليا وإداريا غير مسبوق على هذه الحكومات. وبما أن المنطقة كغيرها من بقية العالم منفتحة على الخارج حيث انتقال السكان خارج وداخل الحدود، وحيث يعتمد بعضها على القوى العاملة الأجنبية، لم تعد الزيادة السكانية وحدها هما، بل التركيبة السكانية أيضا حيث المواطنين والأجانب معا، حتى أن البعض بدأ يتحدث عن ضرورة تصحيح التركيبة السكانية لبلاده بما يؤدي بالطبع إلى تقليل عدد السكان إلى حد كبير بالنسبة لهم.

وأما فيما يتعلق بالخسائر الاقتصادية وتراجع معدلات النمو الاقتصادي، فإن التقارير الدولية وتقديرات الخبراء تقدم رؤية سلبية للغاية بخصوص ما جرى من الجائحة وما سيكون عليه الوضع لعام آخر على الأقل (البعض يرى أن التعافي العالمي يحتاج إلى 4 سنوات). ففي مايو 2020 نقلت قناة روسيا اليوم تصريحات لرئيس اتحاد رجال الأعمال العرب حمدي الطباع قدر فيها حجم خسائر الاقتصاد العربي من جراء وباء كورونا بما يقارب 323 مليار دولار، وقال أيضا إن تقريرا لصندوق النقد الدولي توقع انكماشا في اقتصاديات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنسبة 3.3%، وإن ديون الحكومات العربية سترتفع بمقدار 190 مليار دولار خلال 2020 لتصل إلى 1.46 تريليون دولار، وإن العجز المالي سيرتفع من 2.8% من الناتج المحلى الإجمالي إلى 10%. ولا شك أنها تقديرات ترسم مستقبلا مظلما، تقابلها بعض النجاحات القليلة من جانب عدد محدود من الدول العربية فيما يتعلق بتسجيل معدلات نمو بين 3.5% و4% في ظل الجائحة نتيجة انخراطها في مشروعات قومية ضخمة، ولكن هذا لا يغير من الصورة العامة المظلمة للأوضاع العربية.

ولا تبتعد حالة التراجع في الخدمات عن المشكلات الناجمة عن الوضع السكاني والانكماش الاقتصادي، لأنها مرتبطة بكل منهما إلى حد كبير. فقد أدت الجائحة إلى تقليل النشاط التعليمي في ضوء إغلاق المدارس والجامعات والتحول إلى التعليم عن بعد، وإلى إرجاء مشروعات صحية قومية لتوفير الأموال والأطقم الطبية لعلاج المصابين وفرض الإجراءات الاحترازية. كما تراجع نشاط البنوك والمؤسسات المالية والبورصات، وحركة السياحة والطيران. وفي هذا الصدد فإن كل جهود التنمية البشرية مهددة بالفشل إذا توقفت أو تعطلت المشروعات الصحية والتعليمية باعتبارهما من أعمدة بناء الإنسان خصوصا منذ مرحلة الطفولة.

وهكذا تصبح قضايا السكان والموارد والخدمات الأساسية في مقدمة جدول أعمال الحكومات العربية المختلفة خلال السنوات الخمس المقبلة على أقل تقدير حتى يستعيد الاقتصاد بكل مصادر قوته عافيته. ويحتاج الأمر إلى مراجعة لكل خطط التنمية العربية. وذلك يعد من علامات الاستقرار الحقيقي بغض النظر عن استمرار الأزمات السياسية الساخنة. فواقعيا من الصعب التكهن بزوال هذه الأزمات في الزمن المنظور. من الوارد أن يتم احتواؤها وتخفيف حدتها، ولكن من الصعب التأكيد على أنها إلى زوال. وبالمقابل فإن التركيز على التحديات القديمة الجديدة مثل السكان والموارد والخدمات من شأنه أن يوفر فرصا للاستقرار، ومن خلاله يمكن التصدي للأزمات السياسية بشكل أفضل. وعمليا لا يمكن الادعاء بطرح تصورات لما يمكن للحكومات مجتمعة أن تفعله تجاه هذه القضية أو تلك من القضايا الثلاث، لأن هناك تباينات في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أيضا من دولة إلى أخرى، بما يعني المقاربات تختلف فيما بينها. ولكن ما لا يمكن تغافله أن هذه القضايا تحتل الآن صدارة الاهتمامات اليومية لصانع ومتخذ القرار. ومن جهة أخرى لن يكون مستغربا أن تتغير علاقات الدول العربية بمحيطها وعالمها الخارجي في اتجاه توجيه العلاقات الخارجية نحو المساعدة في حل التداعيات السلبية لجائحة كورونا على القضايا الثلاث: السكان والموارد والخدمات.