أفكار وآراء

«القبيلة» وسلطة الواقع!

14 أكتوبر 2020
14 أكتوبر 2020

محمد جميل أحمد -

من أهم منطلقات سوء التفاهم حيال كثير من قضايا العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع؛ أن كثيرين حين يقاربون قراءتهم التجريدية عبر الفكر عن قضايا الواقع لا يختبرون في قراءاتهم تلك حساسيةً لقضية ما يمكن أن نسميه حكم الأمر الواقع. ذلك أن الاستغراق في التفكير والتفكيك التجريدي والاشتغال عليهما حول قضية من قضايا الواقع لا يعني بالضرورة أن مجرد ذلك التفكير سيكون فاعلًا في التأثير على القضية المراد معالجتها في الواقع.

فمثلا: واقع سطوة القبيلة ومنظورها إذ يشتبك في وعينا، في المنطقة العربية، مع نظم إدراك أخرى مختلطة بين العقيدة والرؤى المعاصرة، فهذا أمر لا يمكن القول إن مجرد التفكير فيه يعني الخلاص منه، ولا كذلك الكلام فيه يعني بالضرورة الخلاص منه، مع أهمية التفكير والكلام كخطوات مرحلية في العلاج.

لعل واحدة من أكبر العادات التي أضرت بمثقفي المنطقة العربية، هي أنهم طالما مزجوا مزجًا خياليًا بين الفكر والواقع، وظن كثيرون منهم أن مطلق التفكير في قضايا الواقع يعفي من مواجهة الاستحقاقات التي تترتب على ذلك التفكير حتى إذا لم يتكامل ويتطور في رؤية تقوم على معالجة مقتضيات ذلك التفكير في مواجهة الواقع.

فالقبيلة مثلا، إذ تعتبر اليوم في المنطقة العربية وحدةً من الوحدات الاجتماعية الكبيرة، إلا أن تكييف طبيعتها معرفيًا وموضوعيًا لا يزال غير منجز. فليس مجرد وجود القبيلة اليوم على هذا النحو من الغموض كافٍ أو مغر بتجاوز استحقاق التفكير الذي يعنى بقراءة دلاتها والتأمل في إمكانيات تمثيلاتها التي تحمل قابليات التغيير والتحويل بحسب حركة الواقع الذي تنعكس متغيراته في الوظائف التي تمارسها القبيلة.

ما أعنيه، أن القطيعة مع القبيلة لم تنجز حتى الآن في المنطقة العربية. وأن التفكير الفلسفي المجرد الذي كان يُظن من خلاله اختفاء القبيلة من تلقاء نفسها بمجرد الانتهاء من التفكير فيها كان عبارة عن تخدير لا يعني شيئًا. إلى جانب أن ذلك التفكير قاس قياسات فاسدة ابتداءً من تصوره لفكرة الدولة الوطنية التي لم يستأنف حولها المفكرون العرب تفكيرًا نقديًا متماسكًا.

لقد كان تجاور القبيلة مع نظام الدولة المصنوعة عبر الاستعمار في بدايتها في المنطقة العربية، يعكس سوية واحدة من عدم القدرة عن إدراك ضرورة الفحص النقدي للأفكار المتصلة بمعالجة منظومات مثل القبيلة والدولة.

وربما لأن شكل الدولة وأجهزتها المادية المتصلة بحياة الإنسان في المنطقة العربية، وصورة العالم الحديث المتشكلة في أذهان الناس من خلال هوياتهم بصفتهم مواطنين، والسلم الدولي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، كل ذلك جعل من الدولة هي الأكثر تعبيرًا عن هوية العيش الشكلاني في الأزمنة الحديثة بالمنطقة العربية، فيما الحقيقة أن ذلك الشكل من الدولة، وإن كان قد أسس بمرور الزمن، لوعي جنيني بالدولة عبر الانتظام المدني، إلا أنه ظل شكلا يعيد التذكير بالقبيلة، كلما كانت علاقتنا بهذه القبيلة في كثير من البلدان العربية تعكس تشويشًا مستمرًا في مكانتها التي تزاحم وعينا بجانب الدين والوطن والدولة!

صحيح، لقد تراجعت الوظائف القديمة للقبيلة؛ كتوفير الأمن لأفرادها مثلا، لكن لا يمكننا القول إن الناس في المنطقة العربية قد أنجزوا قطيعةً مع طبيعة المفهوم الكلاسيكي للقبيلة. فالقبيلة حتى اليوم لم نستطع أن نضعها في خانة الفولكلور، فيما نحن لم نبلغ بعد طور مفهوم الفردية الذي هو صنو فكرة المواطنة ونتيجة طبيعية لاستحقاق العيش في وطن يعتبر وطنًا في وعي أفراده من حيثية الهوية المواطنية لمعناه، لا من حيث التقليد النمطي للعالم الحديث.

ولعل أكبر تعبير عن وجود القبيلة في حياتنا هو غياب المعنى الحقيقي لمفهوم الفردية، إلى جانب نمط التفكير القبائلي الذي يقبع تحت الكثير من تصوراتنا وسلوكياتنا وتمثيلاتنا لمفاهيم معاصرة وأنماط حياة معاصرة.

هكذا سنجد أن سلطة الأمر الواقع للقبيلة في المنطقة العربية لم تجد لها تفكيرًا نقديًا قادرًا على تطوير أدوات معالجة عملية تنتهي بالقدرة على إنجاز القطيعة مع نمط التفكير القبائلي أولا، وكذلك مع ضغوط وإكراهات المجاملات القبلية غير العقلانية في بعض جوانبها، بما يعني أن الالتباس والتداخل في وعينا بين فكرة الوطن والقبيلة والدين سيكون التعبير الأسمى عن المزيج الذي نمارس من خلاله أنماط حياتنا في تداخلها بين تلك المفاهيم الثلاثة دون أن تكون لنا القدرة على الفرز الموضوعي والمعرفي بين الحدود الفاصلة.

إن سلطة الأمر الواقع التي تجعل من القبيلة حاضرةً وملتبسة وضاغطة على وعينا، في الوقت نفسه، مع مفاهيم أخرى، كالدين والوطن، ستظل حاضرة باستمرار ما دمنا عاجزين عن إنجاز قطيعة مستحقة مع هويتها القديمة. وتلك قطيعة لا يمكن أن تتحقق إلا حينما تظهر قيمة الفردية في حياتنا عبر ممارسة واعية لتلك القيمة، أي الممارسة التي ندرك من خلالها أننا مواطنون ولسنا قبائل، دون أن يعني ذلك، بالضرورة غيابا للهويات الشكلانية لنظم التعبير عن رمزية قبائلنا في الفولكلور؛ كالزينة واللباس.