أفكار وآراء

ذاكرة النهضة العمانية

11 أكتوبر 2020
11 أكتوبر 2020

خميس بن راشد العدوي -

11 يناير 2020م.. ابتدأ الفصل الثاني من النهضة العمانية المعاصرة، باستلام جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله - مقاليد الحكم في السلطنة، بعد نصف قرن من التأسيس للدولة الحديثة الذي قاده جلالة السلطان قابوس بن سعيد - طيّب الله ثراه -، ليكتمل بذلك الفصل الأول من النهضة العظيمة، وقد أعلن جلالة السلطان هيثم منذ خطابه الأول بأن خارطة المرحلة القادمة هي (السير على نهجه - جلالة السلطان قابوس- القويم، والتأسي بخطاه النيرة التي خطاها بثبات وعزم إلى المستقبل، والحفاظ على ما أنجزه، والبناء عليه. هذا ما نحن عازمون - بإذن الله وعونه وتوفيقه - على السير فيه والبناء عليه، لترقى عمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها وسهر على تحقيقها، فكتب الله له النجاح والتوفيق).

إن النطق السامي من لدن جلالته لحظة استلامه الحكم يجعل السلطنة أمام تجدد في نهضتها؛ فلا نسيان لمرحلة التأسيس الخالدة، ولا تعطيل لمنجزاتها المجيدة، وإنما هو مواصلة بناء وتطوير مستمر. وهذا إدراك عميق من جلالته أدام الله مجده لأهمية مرحلة التأسيس الحاسمة، وللعمق الإنساني والحضاري الذي تركته لدى الشعب، وإن كان هذا الإعلان هو الفلسفة التي ستواصل بها السلطنة، نهجها فإنها تستلزم الكثير من الواجبات، منها: توثيق مرحلة التأسيس، ولما قام به جلالة السلطان المؤسس رحمه الله ومعه الشعب من جهود عظيمة ومضنية في بناء عمان؛ حاضرا ومستقبلا. ومنها دراسة تلك المرحلة، وتحليل معطياتها، وإتاحتها للدراسات العلمية الجادة؛ الأكاديمية والحرة، والتعريف بمجدها المشرق. ومنها تحديد الأسس المرجعية للدولة الحديثة التي تمت في تلك المرحلة.

هذه المرحلة الذهبية من التأريخ العماني ليست زمنا عابرا كرر ما سبقه، وإنما هي طور من أطواره الكبرى، فمن يتتبع هذا التأريخ يجده محقبا بأطوار مفصلية، فهي -حسب دراستي- حوالي ستة أطوار تأسيسية، بحيث إن كل طور شكّل المجتمع ببنية مجتمعية وحضارية جديدة تختلف عمّا سبقها، بيد أنه ترك أثره الواضح على المراحل اللاحقة عليه، وهذه الأطوار هي:

الطور التمهيدي؛ ما سبق الألفية الثالثة قبل الميلاد. والطور الأول؛ منذ حوالي بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد حتى الميلاد. والطور الثاني؛ منذ الميلاد حتى مجيء الإسلام. والطور الثالث؛ منذ دخول أهل عمان في الإسلام حتى قيام الدولة اليعربية. والطور الرابع؛ منذ حكم الإمام ناصر بن مرشد اليعربي حتى نهاية حكم السلطان سعيد بن تيمور. والطور الخامس؛ منذ تسلم جلالة السلطان قابوس الحكم عام 1970م؛ وهذا هو الطور المؤسس للدولة الحديثة، والذي أعلن جلالة السلطان هيثم السير على نهجه وتجديد نهضته. لكل طور من هذه الأطوار معالمه الشاهرة وملامحه الظاهرة، ومن أراد شيئا من التفصيل فليرجع إلى كتابي «السياسة بالدين»، فقد تحدثت عن بعضها.

نحن العمانيين أمام لحظة تأسيسية فارقة في تاريخنا، تستوجب علينا أن ندوّنها، بكل تفاصيلها؛ قدر الإمكان، مع توخي المنهجية والموضوعية، فالتاريخ عنصر أساس في رسم خارطة المستقبل وبناء الأمم ومعرفة الأجيال أمجادها. وإذا كنا اليوم نجهل كثيرا من أحداث ووقائع التاريخ الغابر؛ لاسيما الفترات المؤسِّسة للأطوار الكبرى، فإنه يجب علينا ألا نقع في الإشكال نفسه، فلا زالت لدينا الفرصة سانحة لكي ندوّن تأريخ هذه المرحلة، وإن كان الزمن الآن مواتيا فإن مروره السريع قد يطوي في غياهبه كثيرا من الأحداث، فيجعلها أثرا بعد عين، فيستحيل بعده استرجاعها ويصعب سد فراغها، وتُفقد مواقف قد نأسف على عدم توثيقها، فتظهر بمرور الأيام ثغرات في البناء المعرفي لمرحلة من أهم مراحل تاريخنا، وحينها لات ساعة مندم.

ولذلك.. أرى من المهم أن يُعمَل على توثيق ذاكرة النهضة العمانية، عبر لقاءات مباشرة مع مَن لا يزالون يعيشون بيننا، لاسيما أولئك الذين شهدوا أحداث التغيير الأولى، لحظة استلام السلطان قابوس للحكم في 23 يوليو 1970م. لقد كتب الله على خلقه الفناء، ومن الطبيعي أن نفقد بين الفينة والأخرى أحد أولئك الذين كان لهم دور في الفصل الأول من النهضة العمانية الحديثة، فقد فقدنا المؤسس نفسه.

إن اشتغال المؤرخين على هذه المرحلة ضروري، سواءً برصد الأحداث؛ التي قد يكونون هم أنفسهم عاصروها، بل وشاركوا في صنعها، أو بجمع الوثائق وتبويبها وتحليلها، أو بالمقابلات الشخصية المفردة والحوارات الجمعية، أو بدراسة ما كتب في المؤلفات والدراسات، أو بجمع ما نشر عبر الصحافة ووسائل الأعلام المختلفة، كل ذلك وأكثر مهم جدا، وينبغي القيام به منذ هذه اللحظة، والاعتماد على المؤرخين فقط لا يفي وحده بالغرض، فهي عهدة ينوء أولو العصبة عن حملها، خاصةً.. أن معظم المؤرخين العمانيين الآن ينتمون للحقل الأكاديمي، مما يجعل دراساتهم رهينة بالاحتياج البحثي لخططهم الأكاديمية؛ سواءً بأنفسهم أو بتوجيه طلابهم إلى ذلك، وهذا مع أهميته يحتاج إلى من يمهد له بالتوثيق.

أقترح أن تشكّل وزارة الإعلام وهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية لجنة عمل لتوثيق هذه المرحلة، يفرّغ لإجراء اللقاءات مَن هو مقتدر علمياً وتاريخياً، ولديه مقدرة على تتبع مجريات الأحداث منذ عام 1970م؛ لحظة انطلاق الدولة الحديثة، بحيث يكون المُحاوِر علمياً أكثر منه إعلامياً، ولديه من المعرفة والحنكة والصبر بحيث يتتبع مسارات الموضوع الذي يبحثه، ويعاونه في ذلك فريق مخصص، سواءً من حيث إعداد المادة قبل الحوار، أو تتبع قضية من القضايا التي عُني بها المُحاوَر، ولربما كان على هذا الفريق أن يستحضر بعض الوثائق والوقائع التي تدعو لاستذكار المُحاوَر أحداث ذلك الزمن، وهناك الكثير مما قد يحتاج إليه الحوار سيظهر مع التنفيذ العملي له. وهذا الفريق تسخّر له كافة وسائل التوثيق، لتسجيل الحوار، وحفظه، وتبويبه، وتصنيفه.

ومن الرأي الحسن.. أن يُجرى التوثيق بطريقة أفقية؛ بمعنى أخذ اللقاءات موضوعاً موضوعاً، فيَعد فريق العمل مَحاوِر الموضوع، ثم يُجرى الحوار مع مَن لهم علاقة بذلك، وبعد الانتهاء من الموضوع ينتقل إلى موضوع آخر. ويمكن أن يقسّم المشروع إلى مواضيع؛ مثلاً: السلطان قابوس قبل الحكم، استلام السلطان قابوس مقاليد الحكم، الفكر التنموي لدى السلطان قابوس، جامعة السلطان قابوس من التأسيس إلى الخبرة، وهكذا.

وعلى الفريق أن يجعل اللقاءات في سياق واحد، بتتابع زمني منسجم مع بعضه البعض، ولربما لم تكتمل الفكرة، أو ظهرت تساؤلات جديدة، ونحو ذلك، فيتدارك الفريق بمزيد من اللقاءات؛ سواء مع الذين أجري معهم الحوار، أو مع أشخاص آخرين ظهرت الحاجة إليهم أثناء تتابع اللقاءات.

وهذا العمل الجليل في حال تنفيذه ينبغي ألا يبقى حبيس حواسيب حفظ الوثائق، وإنما ينشر تباعاً عبر «القناة الثقافية»، ثم يتاح عبر المنصات الرقمية، كما يرفد به السفارات والقنوات الوثائقية، والمؤسسات العلمية والأكاديمية، والمكتبات والمراكز الثقافية، والباحثين والمختصين، إذ الغرض منه مع التوثيق؛ التعريف بمرحلة التأسيس للدولة الحديثة ومفتتح آخر الأطوار الكبرى للتاريخ العماني. وهذا مهم جداً للفصل الثاني من النهضة المتجددة التي يقودها جلالة السلطان هيثم بن طارق - أعزه الله-، فسيكون دافعاً قوياً للجيل الحالي وهو يسير بمجده نحو الأمام، نحو مزيد من العطاء والبناء، نحو التمكين السياسي للدولة، والترسيخ الاجتماعي داخل الوطن، والحضور المعرفي في الحقل الثقافي.

هذا هو المقترح لمشروع ذاكرة النهضة العمانية، وقد يحتاج إلى تطوير وتأطير، إلا أن كل فكرة لها حياة، وحياتها التنفيذ، وهو ما نرجوه من مؤسساتنا؛ وعمان تواصل مسيرتها الحضارية والإنسانية، فعلى أمل بميلاد قريب للمشروع.