أفكار وآراء

«نظرية المؤامرة».. فهم يبعث على الاتكالية

11 أكتوبر 2020
11 أكتوبر 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

يقول أحد المفكرين: «نظرية المؤامرة لا تُبعدنا عن الحقيقة فقط بل تُبعدنا من مواجهة أخطائنا ومشاكلنا»- انتهى النص - وفق الويكيبيديا) ذلك أن من طبيعة النفس البشرية أن تتوارى خلف الأعذار، وأن تخلق المبررات، وتركن كثيرا إلى الانزواء عن تحمل المسؤولية//

يردد الناس كثيرا مقولة «نظرية المؤامرة» حيث تلصق في أي فعل فيه إساءة لأي طرف مغلوب على أمره، وكلما تكاثرت الإساءة؛ ازداد ترديد القول: «هذه مؤامرة» فمن يتآمر على من؟ ومما يؤسف له حقا أن تترسخ هذه الصورة النمطية «مؤامرة» في الذاكرة الشعبية وتحتضنها على أنها واحدة من المسلمات؛ التي لا تحتمل المناقشة والنقض، فبما أن هناك «مؤامرة» فيجب أن يتوقف الحديث عند هذه النقطة؛ وفقط، وتستمرئ الذاكرة هذا الوصف، وتؤمن به، وتختزنه، فهو السبب والمسبب لكل قضايانا، وأن لا حلول ممكنة، ما دام هناك شيطان متربص في قمقمه يشير إلى «مؤامرة» فمن هو الشجاع الذي يمكن أن يخرج على الناس، ويقول: «هذه أو تلك ليست مؤامرة؛ وإنما هي هروب عن مواجهة الحقيقة؛ وتكاسل على القيام بالدور؛ وتراجع عن البقاء على قمة الهرم، وقلة حيلة عن البحث الجاد عن صناعة الحلول؛ والأخذ بالأسباب، ويغلف كل ذلك بالتوكل على الله؟».

تذهب الفكرة هنا أكثر أن لا شيء يولد بالصدفة؛ وهذه حقيقة وجودية في وجود المسبب، وهذا لا يختلف عليه اثنان، ومغالطة هذه الحقيقة تكمن في أن الحدوث موجه إلى فئة دون أخرى، وأن هناك تقصدا في حدوث شيء ما في جغرافية ما، في زمن ما ، وهذا الفهم إن توغل في النفس، وارتقى إلى مستوى العقيدة، فإن تداعياته أكثر خطورة من واقعه، حيث يوقف مجموعة الدوافع النفسية الذاهبة إلى التطور والسمو عند مستوى معين، فيذهب الشعور بصورة تلقائية من أن لا فائدة مما يجب بذله، لأن هناك مؤامرة تحاك ضد كل شيء، وهذا ما من شأنه يكسب النفس شيئا من الإحباط، وشيئا من التراجع عن المساهمة الفاعلة فيما يساهم فيه الآخرون المتحررون من عقد الـ «مؤامرة» والذين غالبا ما يشار إليه بقيادة المؤامرات، وابتداعها، ومن ثم رميها على رؤوس الضعفاء والمغلوبين على أمرهم.

كيف يمكن التفريق بين الأحداث التي تنضم تحت قائمة الـ «مؤامرة» والأحداث التي لا يمكن إدراجها تحت نفس القائمة، ومن يحدد؛ أصلا؛ تعريف «حدث المؤامرة» من غيره، في ظل تسارع الأحداث من جانب، وفي ظل تكاثرها، وقربها من المصالح المباشرة، وغير المباشرة، وفي ظل تشابك مصالح الناس مع بعضهم البعض، وتأثر بعضهم البعض بما يقع عليهم من أحداث، كما يحدث اليوم في هذه جائحة (كورونا - كوفيد19)؟ فالأحداث وفق وقع الحياة هي حاصلة سواء شارك فيها الإنسان بصورة مباشرة، أو لم يشارك، وبالتالي لا تحتاج إلى مظان الـ»شبهة» في حدوثها، وإلا كيف ينظر إلى هذا الكون المترامي، بدون حوادث، ولا تغيير، ولا تقلبات، مع أن مكونات الكون نفسها تعيش هذا الحراك المستمر، طوال الـ (24) ساعة بلا توقف، ولننظر إلى حركة الأجرام السماوية، وإلى تقلبات الليل والنهار، وإلى حركة الحيوانات الأخرى من غير البشر، وإلى ظاهرة الجزر والمد بالنسبة للبحار، وما يرافق ذلك من تغيرات لا أول لها ولا آخر، ألا ينبئ ذلك عن التسليم بحقيقة الأحداث، وما تجلبه للبشرية من مفارقات موضوعية سارة كانت أو ضارة، مبهجة كانت أو محزنة؟ حيث لا ثبات في كل مجريات الكون إلا الحقيقة الكبرى فقط، وهي خالق رب هذا الكون ومسير أمره، وبالتالي فهل يعقل أن تصنف كل الأحداث تحت قائمة «مؤامرة»؟ هذا فهم يخالف المنطق.

استعذبت بعض الثقافات هذا المخيال الشعبي؛ أغلبه؛ متجاوزة - هذه الثقافة - واقعها الحقيقي المفترض أن يكون مبنيا على الحقائق والواقعية، وليس فقط رمي الحمل في غير حضنه الحقيقي، وانتصرت لذاتها المهزومة، دون أن تقوم بردة فعل معاكسة لاستصواب الرأي وبالتالي تلغي مجموعة التماثلات التي حدثت، واقتنعت بها الثقافة الجمعية؛ في لحظة زمن ما؛ وأجمعت عليها مجموعة الآراء على أنها مؤامرة أريد بها أن يظل أبناء هذه الثقافات على تموضعهم، فهذه الصورة النمطية لا يمكن أن ننزلها منزلة «حمّالة أوجه» أي قابلة للاحتمالات والتفسيرات، ومعنى هذا أن الفهم يقتضي تجاوزها، وإنكار واقعيتها، والذهاب مباشرة إلى البحث والتقصي، في حقيقة حدوث ما يحدث، فالاستسلام ليس من صفة أصحاب العقول الواعية التي لا تقبل ما يقدم لها على «طبق من فضة»ملغية بذلك الدور المحوري الذي يقوم به الإنسان في مسيرة الكون ككل؛ لكونه واحدا من مخلوقات الله العاقلة، التي تتخذ من الفعل وتصويباته خطوطها الرئيسية لبناء الحياة.

يقول أحد المفكرين: «نظرية المؤامرة لا تُبعدنا عن الحقيقة فقط بل تُبعدنا من مواجهة أخطائنا ومشاكلنا»- انتهى النص - وفق الويكيبيديا) ذلك أن من طبيعة النفس البشرية أن تتوارى خلف الأعذار، وأن تخلق المبررات، وتركن كثيرا إلى الانزواء عن تحمل المسؤولية، فالمسؤولية التزاما أدبيا، وخلقيا، والغالبية العظمى من الناس ليس عندها الشجاعة لأن تكون في هذا الموقف بتبعاته الموضوعية الكثيرة، ولذلك فمواجهة «أخطائنا ومشاكلنا» كما جاء في النص ليس يسيرا، وبالتالي؛ فوفقا لفكرة المقال، نذهب إلى رمي الصنارة في شواطئ الآخرين، خوف كل التبعات التي تترتب على تحمل المسؤولية في حالة الاعتراف بالحقيقة، أو قول الشجاعة في أخطائنا التي نرتكبها؛ سواء أمام أنفسنا، وهي الأسهل، أو أمام الآخرين، وهي الأصعب بالطبع؛ ومن هنا تتعزز الأنفس بالمواقف السلبية، فترمي بثقلها في حضن الآخرين، ومن ثم تتناسل هذه الصورة مع مرور الزمن، لتصبح صورة نمطية متجذرة في ثقافة الأجيال، ولذلك يبدو أن كل شيء لا تنتجه الثقافة الأم هو داخل في «نظرية المؤامرة» ومن هنا يمكن الجزم على مختلف الأحداث التي تقع في هذا العالم، تحتاج إلى كثير من المراجعة لتصنيفها إن كانت يمكن أن تكون ضمن قائمة «نظرية المؤامرة» من عدمه، وهذه إشكالية موضوعية في الثقافة الجمعية التي تأسست على هذا النوع من المفاهيم المغلوطة، وهذه الصورة لا تبتعد كثيرا عن مفهوم «من لم يكن معي فهو ضدي» وهذه إن صنفت فإنها تصنف ضمن العنصرية البغيضة التي تتجاوز نظرتها الدائرة المحيطة بها فقط، أما غير ذلك فهو دخيل، ولا يمكن قبوله.

ربما الفهم العام يذهب بـ «نظرية المؤامرة» إلى الفهم السياسي أو الاقتصادي، أو الثقافي في بعدها الدولي فقط، ولكن يبدو من خلال التدقيق في الفهم أن المسألة مختزلة في بعدها الفردي الصرف؛ أكثر؛ وبالتالي فمجمل الأحداث التي يتلقى مأزقها الأفراد ينظر إليها على أنها لها ارتباط مؤامراتي ولن تكن بوحي الصدفة، وهذا انشقاق كبير يعيشه الأفراد، ويؤثر بصورة مباشرة على اللحم الاجتماعية، بل ويفتت مجموعة التكوينات، ويظل يزرع بذرة الشك بصورة دائمة، وهذه مسألة خطيرة، كما تحدث الإشكالية؛ أكثر؛ في مجموعة الافتراضات غير المنطقية في «نظرية المؤامرة» كالبعد الجغرافي، بالنسبة للدول، واختلاف الثقافات، والأعراق، والأديان بالنسبة للأفراد، ومع وجود هذه الفراغات غير المؤهلة لافتراض «مؤامرة» إلا أن الأمر يزج به في المفهوم العام، أو أنه يأخذ بعده التاريخي المحض، فبما أن هناك قناعة تاريخية بوجود «مؤامرة» فالمسألة لن تخرج عن هذا «الشيطان الذي يعيش في قمقمه» وبالتالي فلا تقبل مجموعة المبررات الذاهبة إلى التخلص من فهم «نظرية المؤامرة».

يقال: «تُنتج نظريات المؤامرة في أغلب الحالات افتراضات تتناقض مع الفهم التاريخي السائد للحقائق البسيطة» - انتهى النص - (وفق المصدر السابق) فالفهم السائد؛ ليس فقط حسب هذا التعريف؛ ولكن الحقيقة الصادقة تذهب إلى جذور ومسببات لمختلف القضايا، قد يكون بعضها تتصل اتصالا مباشرا بالشخص أو المجتمع، كفاعل، أو مؤسس لجذور مشكلة ما، وقد يكون تكون هناك عوامل خارجة عن الإرادة الجماعية، أو الفردية تحتم وجود مشكلة ما تكون هكذا بفعل سياق الحياة لا أكثر، والغرابة تحل هنا عندما يكون هناك تجاوز لمثل هذه الصور، عند وقوع الأحداث، والذهاب مباشرة إلى استحضار الفهم النمطي من أن هناك مؤامرة ما، وإلا لما وقع هذا الحدث أو ذاك، ومن أصعب المفاهيم المتعلقة بـ «نظرية المؤامرة» هي عندما تتغلغل في النفوس فترتقي من مسألة الدليل إلى مسألة الإيمان، فالإيمان عقيدة، كما هو معروف بالضرورة.