أفكار وآراء

جائحة كورونا.. خسائر اقتصادية وسياسية غير مسبوقة

10 أكتوبر 2020
10 أكتوبر 2020

د. عبدالعاطي محمد -

هذا الاستغلال السياسي للجائحة يزيد من آلام البشرية التي لم تعد تعاني فقط من التداعيات الصحية السيئة، وإنما من التداعيات الاقتصادية الوخيمة التي أعادت الجميع إلى الوراء، وكذلك يعمق من مشهد الانقسام العام الذي يعيشه العالم منذ عدة سنوات.

بنهاية العام 2020 من المتوقع أن تصل الخسائر الاقتصادية للعالم من انتشار جائحة كورونا إلى ما يزيد عن 9 تريليونات دولار، وأن ترتفع ديون العالم من 250 تريليون دولار قبل الجائحة إلى 270 تريليون دولار، مما يشكل أكبر كارثة اقتصادية عالمية في التاريخ المعاصر. ولا تقل الخسائر السياسية خطورة عن شاكلتها الاقتصادية، بالنظر إلى الاستغلال السياسي للجائحة في تعميق الخلافات القائمة بين القوى الدولية العظمى، وفي الصراعات على الحكم والنفوذ بين القوى السياسية المحلية في عديد الدول.

الخسائر الاقتصادية الضخمة لا تغفلها عين المواطن المعاصر سواء كان من أبناء الدول المتقدمة أو النامية وذلك من واقع حياته اليومية الصعبة، وتتحدث عنها تقارير المؤسسات الدولية المعنية منذ بدء ظهور الجائحة أوائل العام. لقد حدث انهيار حاد في الناتج المحلى الإجمالي لأكبر اقتصاديات العالم، حيث تراجع في أمريكا بنسبة 32.9% وفي ألمانيا بنسبة 10.1% وذلك على سبيل المثال لا الحصر. ومن واقع التسعة تريليونات دولار المقدرة لخسائر العالم تصل خسائر دول آسيا منها دون الصين إلى 1.6 تريليون دولار، بينما يصل نصيب الصين منها إلى 1.6 تريليون أيضا. ومنذ بداية العام لم تتزحزح التقديرات المتشائمة من جانب البنك الدولي قيد أنملة، وذلك بخصوص معدلات النمو في الدول المتقدمة وتراوحت بين 1.9% و2.5%. وعموما تتجه تقارير الخبراء من واقع متابعة هذه الأرقام إلى القول إن الاقتصاد العالمي ينتقل من الانكماش إلى الركود، مما يجعل احتمالات الانتعاش مستقبلا ضعيفة جدا. ويبني الخبراء هذه التقديرات استنادا إلى الشلل الذي أصاب قطاعات ضخمة في عالم الاقتصاد مثل الطيران والطاقة والسيارات والصناعات التحويلية نتيجة ظهور وانتشار الوباء عالميا وعدم القدرة على وقفه ، ثم القضاء عليه.

وكان العالم قد مرّ بتجارب مشابهة هزت الاقتصاد إلى حد الزلزال مثلما حدث وقت انتشار الإنفلونزا الأسبانية خلال عشرينيات القرن الماضي، أو خلال الأزمة المالية العالمية 2007- 2008 التي فاقت خسائرها ما حدث في الكساد العالمي 1928. ولكن جائحة 2020 فاقت كل ما عداها لأنها قطعت التواصل الإنساني في كل المجالات مما لم يجعل هناك منتجا أو مستهلكا يمكن الاعتماد عليه للإنقاذ، فهي ببساطة أوقفت عجلة الحياة. إلا أن المصائب لن تتوقف عند هذا الحد، وإنما تعدتها إلى عالم السياسة مع أن أصل المشكلة ذو طبيعة وبائية لها مخاطرها الصحية بالأساس ولا شيء آخر. وربما يرجع السبب إلى أن الكارثة الصحية شكلت اختبارا قاسيا ومفاجئا للحكومات ولم تتح لها الفرصة للتعامل السريع الذي يحد من انتشار الوباء ويحقق السيطرة عليه مثلما حدث في كوارث وبائية في الماضي البعيد.

وفي الاختبار السياسي توالت المشاهد الغريبة سريعا التي سجلت الافتقاد للتعاون العالمي وخصوصا بين الكبار من ناحية، وسهولة استغلال الجائحة في تصفية الحسابات السياسية بين الخصوم من ناحية أخرى، وذلك تأثرا بمناخ الانقسام الذي يهيمن على عالم اليوم منذ سنوات عدة. فمن البداية هيمنت فكرة المؤامرة على الحدث الضخم، وراح البعض يروج لمزاعم بأن الصين مثلا التي انتشر منها الوباء هي المسؤولة عن ظهوره وتصديره لبقية العالم بهدف إضعاف الآخرين، متناسين أنها هي أيضا ضحية لهذا الوباء!

وما عزز من هذه المزاعم أن إدارة الرئيس الأمريكي ترامب تبنت الفكرة حيث وصف ترامب الجائحة بالفيروس الصيني!، انطلاقا من حملته السياسية ضد الصين على خلفية الخلافات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين. وذهب البعض الآخر إلى الزعم بأن هناك قوى عالمية خفية وراء ظهور فيروس بخطورة كوفيد - 19 تريد تغيير مسار البشرية وإعادة تشكيل العالم وفقا لأهدافها السرية. وكان الغموض الذي أحاط بطبيعة هذا الفيروس سببا في انتشار التفسير التآمري للظاهرة. كما كان التباين في نتائج الخلاص النسبي من الوباء سببا في الثبات على فكرة المؤامرة، حيث ثارت التساؤلات عن تراجع معدلات الإصابة في بعض الدول وتزايدها في البعض الآخر، في وقت لم يتم التوصل فيه إلى اللقاح، مما أعطى مبررا للشك في أن هناك عوامل خفية وراء تطور المشكلة.

ولأن الولايات المتحدة سرعان ما تصدرت قائمة الدول الأكثر تسجيلا للإصابات بعد أن كانت الصين هي التي في المقدمة، فقد تركزت عليها الأنظار لتتابع كيفية تعاملها مع هذا الخطر. وهنا كان الوباء موضوعا يوميا في الخلافات السياسية بين الرئيس الأمريكي ترامب وخصومه من السياسيين والإعلاميين، حيث تم تسييس القضية بامتياز ثم توالت النتائج السياسية كارثية على الجميع وبالأخص على الرئيس الأمريكي نفسه. فمع بداية ظهور الوباء في الولايات المتحدة، قلل ترامب بالفعل من خطورته في البلاد وراح يسخر من الاتجاهات التي كانت تحذره ويعظم من جهود إدارته في المواجهة مع الوباء. وعندما تزايدت الإصابات ووصلت للآلاف قال إنه لم يكن يريد أن يفزع الأمريكيين، وهذا واجبه كرئيس للبلاد. ودخل الرجل في دوامة الدفاع يوميا عن موقفه إلى حد جلب عليه الانتقاد بل والسخرية من خصومه، إلى أن وصلنا إلى مشهد دراماتيكي غير مسبوق، وقبل نحو شهر من موعد الانتخابات الأمريكية، وذلك عندما استيقظ الأمريكيون على بيان من البيت الأبيض يعلن إصابة الرئيس بكورونا، فها هو الرجل الذي سخر من الفيروس بل ومن الإجراءات الاحترازية يصاب بالفيروس. هنا وقف الأمريكيون جمهوريون وديمقراطيون على رؤوسهم، حيث اكتشفوا أن رئيس الدولة الأعظم في العالم قد أصيب بالفيروس القاتل. كان الجزع مفهوما ومبررا بل والشماتة أيضا من جانب خصوم الرجل الذي أصبح مصيره على كف عفريت والانتخابات باتت على الأبواب. تعاطف الكثيرون معه من منطلق إنساني وأخلاقي. ولكن إصابته جعلت الفيروس في صدارة العوامل التي يمكن أن تطيح به من الحلم بفترة ولاية ثانية. هو من جانبه وفى ردة فعله الأولى تماسك جدا وتعمد توصيل رسالة للأمريكيين بأنه قادر على ممارسة مهامه كرئيس للولايات المتحدة بل قادر على خوض الانتخابات وإيقاع الهزيمة بخصم جون بايدن المرشح الديمقراطي. ولكن خصومه وجدوا إصابته الفرصة لإضعاف موقفه الانتخابي، حيث ذكروه بأنه سخر من البداية من الفيروس وقلل من خطورته وبذلك لم يجعل المؤسسات تتحرك سريعا لإيقاف نزيف الإصابات ومن ثم يحملونه المسؤولية عن حدوث الأرقام الضخمة في الأرواح والإصابات.

وجه آخر يعبر عن الاستغلال السياسي لجائحة أو وباء يهدد الصحة للجميع ولا يدَ للعوامل السياسية من الأصل فيه، هو تعميق الخلاف بين الصين والولايات المتحدة بمستوى يفوق ما كان عليه قبل ظهور الجائحة، فمما لاشك فيه استغلها ترامب في الضغط على بكين مما حسن بالفعل في وضع التوازن الاقتصادي بين البلدين من حيث تعديل الكفة لصالح الولايات المتحدة، كما استغلها في تشويه صورة الصين الاقتصادية عالميا وبناء عليه مارس الضغوط على الاتحاد الأوروبي (ما عدا بريطانيا) للحد من انفتاحه على بكين والاعتماد مستقبلا على الولايات المتحدة. بل إنه جعل من هذه القضية ورقة لضمان النجاح في كسب المزيد من أصوات الناخبين، مؤكدا على أنه بذلك يعمل لصالح المواطن الأمريكي وأن خصمه الديمقراطي يريد التودد إلى الصين سيرا على سياسة الرئيس أوباما.

ومن الوجوه الأخرى للاستغلال السياسي وارتباطا بتطورات المواجهة العالمية مع الفيروس، أن الكبار راحوا يستثمرون حاجة بقية العالم للقاح الذي يوقف المرض، فوجدنا مشهدا عالميا يجسد صراع الكبار مع بعضهم البعض لجني المكاسب دون الأخذ في الاعتبار الجوانب الإنسانية في الموضوع. تصارعت شركات غربية ضخمة في هذا المجال وفي المقدمة شركات أمريكية لإحراز السبق في إنتاج اللقاح. وأعلنت كل من الصين وروسيا أنهما توصلتا إلى لقاح، لا، وبدأ السباق على احتكار السوق العالمي. ومع أن شيئا مؤكدا لم يثبت أنه قد تم في هذا المجال الصعب، إلا أن الحملات الترويجية تسابقت مع بعضها البعض لتصريف منتجاتها. ولا شك أن النجاح في قضية كهذه سيعد مؤشرا على القوة السياسية لمن يحققه لأنه بذلك يتحكم في مصير الملايين من البشر ويستطيع أن يفرض شروطه لأي تعاون مستقبلي في عدة مجالات استراتيجية.

هذا الاستغلال السياسي للجائحة يزيد من آلام البشرية التي لم تعد تعاني فقط من التداعيات الصحية السيئة، وإنما من التداعيات الاقتصادية الوخيمة التي أعادت الجميع إلى الوراء، وكذلك يعمق من مشهد الانقسام العام الذي يعيشه العالم منذ عدة سنوات. ولنا أن نتذكر أن بلدا مثل إيطاليا كانت في البداية من أكثر الدول الأوروبية إصابة بالمرض، وانهارت اقتصاديا بسببه، وعندما طلبت الدعم من أقرب حلفائها أي الاتحاد الأوروبي، لم تجد أذانا صاغية إلا بعد ضغوط عديدة ووقت طويل ساهم في تعميق جراحها الإنسانية والاقتصادية. ومثل هذه الأحداث والمواقف تبني تصورات جديدة تركز على العزلة والانكفاء على الذات تحسبا لكوارث الزمن، بما يعني تفكك اللحمة بين أعضاء الاتحاد.