أفكار وآراء

رياض الريس: صحفي المهمات الصعبة «2»

07 أكتوبر 2020
07 أكتوبر 2020

عبد الله العليان -

بعد توقف جريدة المنار بعد عام واحد 1978، بدأ رياض الكتابة في مجلة المستقبل الأسبوعية، لصاحبها الناشر والصحفي نبيل خوري التي كانت تصدر في باريس، بعد الحرب الأهلية اللبنانية، ولاقت المجلة إقبالا كبيرا مقالات كتابها وتحقيقاتها ومتابعاتها وخبطاتها الصحفية المميزة. يقول الريس عن هذه الفترة: «استمرت كتاباتي بالمستقبل من عام 1979 حتى عام 1986، إلا أنني منذ عام 1974 بدأت أقلل مساهماتي في «المستقبل»حيث بدأ هامش حرية الكتابة يضيق أكثر فأكثر مع مرور الوقت.

استمر الصحفي الريس في صحيفة النهار، لفترة طويلة من 1966 ـ 1976، في مجال التحقيقات والمتابعات الخارجية السياسية والاقتصادية، وعن الأزمات والثورات والانقلابات في العالم، وأصبح متخصصا في هذه الأحداث وأعطته معلومات كبيرة وعلاقات مع الكثير من السياسيين والنخب الفكرية المؤثرة في هذه البلدان التي زارها، كانت علاقة رياض الريس مع رئيس التحرير غسان تويني، رائعة وممتازة، وكانت الخلفية كما يقول بسبب علاقة والده نجيب الريس مع غسان قبل فترة عمله في الصحافة اللبنانية، وعزز هذا الأمر نجاحات رياض الصحفية في البلدان التي ذهب إليها، لمتابعة أحداثها، العربية منها والدولية، ويُقيّم الريس السنوات التي قضاها في صحيفة النهار، فيقول في كتابه: (آخر الخوارج.. أشياء من سيرة صحافية): «بلا تردد إن هذه السنوات العشر (1966 ـ 1976) كانت «العصر الذهبي» للصحافة العربية لا اللبنانية فقط، وإنني كنت من جيل المحظوظين الذين عاشوا هذا العصر وعملوا في صحافته. وإن النهار وفرت لي مجموعة من تجارب وفرص صحفية ما كان يمكن أن تتوفر لي في مكان آخر، والفضل في ذلك يعود إلى رجل واحد فقط اسمه غسان تويني، مهما اختلفت فيما ما بعد المواقع المهنية لكل منا، وفرقت المواقف السياسية بيننا، وجرفت ظروف الحياة كلا منا الى هموم متابعة».

ويذكر رياض الريس أيضا، أنه لم ينسجم مع البعض في صحيفة النهار، لربما كونه ليس لبنانيا، ويصف بعضهم، بما يشبه بمراكز قوى مسيطرة على صحيفة النهار، عدا مدير التحرير «فرنسوا عقل» ـ كما أشار ـ لكون علاقته وطيدة ومتميزة، سواء في عمله الصحفي السابق في المجال الاقتصادي، ثم في المتابعات الخارجية، لكنه كان ذكيا وواقعيا في التعامل مع زملائه من الصحفيين والإداريين، ويذكر في هذا الكتاب: « كان الكثيرون من الزملاء «يغارون» من صداقتنا وعلى رأسهم غسان تويني، الذي كان يتساءل علنا: «ما الذي يجمع يا ترى بين هذا المسيحي الماروني الداموري اللبناني اليسوعي الفرانكفوني، وهذا المسلم السني الدمشقي السوري العربي الأنكلوسكسوني؟، وكلانا يضحك عند سماع هذا التوصيف».

لكن مع ذلك ـ كما يقول رياض الريس ـ في حواره الصحفي مع سعاد جروس، والذي جُمع في كتاب (صحافي المسافات البعيدة)،:« حافظت على مسافة بيني وبينهم؛ كي لا أصطدم أكثر مما اصطدمت بالرفض اللبناني، كي لا أقول ((العنصرية اللبنانية)). اللبنانيون فتحوا عيني على التمايز الطائفي، فأنا لم أكن أسأل ولا أعرف الدرزي من السني، ولا الشيعي من السني، ولا الماروني من الأرثوذكسي أو الكاثوليكي...إلخ. لم أكن أُفرِّق بينهم؛ وذلك لأني تربيت في بيت نجيب الريس الذي كان أصدقاؤه من طوائف مختلفة تجمعهم الوطنية السورية والانتماء العربي».

وأثناء عمله في النهار أيضا يقول رياض الريس، انه عرض لرئيس التحرير، فكرة استحداث (ملف النهار السياسي) الذي كان يصدر في أواخر الستينات وبداية السبعينات، والذي خصص في متابعة أحداث بعينها، ويركز على قضية سياسية أو شخصية سياسية بارزة في العالم، ويسلط عليها الأضواء، وكان هذا الملف ـ كما أتذكر ـ كان يصل إلى مكتب إعلام ظفار في بداية السبعينات من القرن الماضي، وكنا نقرأ هذا الملف الخاص والمهم، بين فترة وأخرى..

يقول الريس عن هذا الملف: «انطلاقًا من فكرة صحفية بسيطة، هي إصدار عمل صحفي إخباري موسع لا تتسع له الجريدة اليومية، بل يكون كالجريدة في متناول العدد الأكبر من القراء. وكانت الفكرة أن لا يكون الملف كتابًا أو مجلة، بقدر ما يكون مرجعًا صحفيًا، يعايش الأخبار، ويكمل الأنباء، ويعاصر الأحداث؛ وبالتالي يكون مؤهلًا للحفظ. وكان الهدف أن يصدر الملف ويصل إلى القارئ، إثر وقوع الحدث مباشرة».

مع بداية توترات الحرب الأهلية عام 1975 في لبنان، فكّر رياض الريس في الخروج من بيروت، بعدما اشتدت الحرب بين الفرقاء، ودخول سوريا طرفا في هذه الصراع، فسافر رياض الريس إلى بريطانيا ـ ومع الكثيرين من الصحفيين، وبعضهم مع مؤسساتهم الصحفية، وقد طرح فكرة إصدار صحيفة في 1976، وفعلا تحرك بجدية في إصدار هذه الصحيفة، وبقي متأرجحا في اسم هذه الصحيفة؟ هل يسميها (القبس)، الصحيفة التي يصدرها والده في دمشق في أوائل القرن الماضي؟ أم يضع لها اسما آخر جديداً؟ يقول الريس في كتابه (آخر الخوارج.. أشياء من سيرة صحافية)، الإشكال أن (القبس): «توقفت عن الصدور نهائيا عام 1928 مع العدد الآخر من الصحف السورية في بداية عهد الوحدة السورية المصرية، كانت بالدرجة الأولى جريدة رأي. وتحديدا، لقد كانت جريدة افتتاحية صاحبها التي اشتهرت بها، عندما كانت الجرائد انعكاسا لأفكار أصحابها وشخصياتهم، وعندما كانت الأخبار كناية عن مواقف هؤلاء الأشخاص من الانتداب ومن الاستعمار ومن الوحدة وأبطالها. وإذا كانت لكل زمان دولة ورجال، فلكل زمان كذلك صحافته وصحفيوه». وسمى هذه الصحيفة بـ (المنار) وصدرت في عام 1977، لكن المنار واجهت الكثير من المصاعب في الدخول لبعض الأسواق العربية، ومنعت الرقابة الكثير من أعدادها، ويقول عن ذلك: «ووجدنا أنفسنا ـ كما يقول رياض الريس ـ أمام أحد أمرين: إما أن نبيع الشركة بخسائرها لأحد المتمولين ـ إن وجد ـ أو أن يقفل الدكان. واخترنا الحل الثاني. لقد فضلنا إقفالها بشرف، وأن يتوجه كل واحد منا لبيته».

وقد خسر كثيرا الصحفي رياض الريس، من توقف جريدة المنار، وكان قد توقع لها نجاحا باهرا، لكونها تصدر في لندن، خاصة أن أجواء الحرية دافعة للانتشار، ومع حماس الصحفيين الشباب، الذين انضموا إليها، فالمنار كما يرى رياض الريس»جريدة فريدة من نوعها بأي مقياس من مقاييس الصحافة العربية التقليدية، في أي بلد وأي زمان، وإلى الآن. وفرادتها تعود إلى تركيبتها التي جمعت صحفيين من كل بلد عربي لم يسبق جمعهم من قبل، وإلى الحماسة المهنية التي لم أعرف لها مثيلًا، التي كانت تدفع هؤلاء الشباب، وكلهم في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم، إلى تحقيق انتصارات صحفية غير مسبوقة، وإلى الحرية المطلقة التي مارسوها في عملهم في جو من الليبرالية الخلاّقة».

بعد توقف جريدة المنار بعد عام واحد 1978، بدأ رياض الكتابة في مجلة المستقبل الأسبوعية، لصاحبها الناشر والصحفي نبيل خوري التي كانت تصدر في باريس، بعد الحرب الأهلية اللبنانية، ولاقت المجلة إقبالا كبيرا مقالات كتابها وتحقيقاتها ومتابعاتها وخبطاتها الصحفية المميزة. يقول الريس عن هذه الفترة: «استمرت كتاباتي بالمستقبل من عام 1979 حتى عام 1986، إلا أنني منذ عام 1974 بدأت أقلل مساهماتي في «المستقبل» حيث بدأ هامش حرية الكتابة يضيق أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وقدرت أنه حان الوقت لأتوقف عن الكتابة في «المستقبل» قبل أن تتوقف هي عن الصدور. وهذا ما حصل فعلا. وأدركت أن الحياة المهنية لكل منا لها مراحل لا نحددها بتواصل زمني، ولكن بفواصل نفسية يقررها واقع الظروف».

بعد ذلك فكّر الصحفي رياض الريس بجدية في إنشاء مجلة ثقافية فكرية في إقامته في أوروبا في عام 1986، باسم (الناقد)، ـ وأتذكر أنني اشتركت في مجلة الناقد، لفترة من الزمن ـ بمقال، في زاوية (ناقد ومنقود) في العدد السادس والعشرين أغسطس 1990، حمل عنوان (حتى أنت يا رض الريس؟)، انتقدت في رياض الريس لمنعه بعض الكتابات الناقدة للحداثة الشعرية، وقلت بالنص: «عندما ظهرت مجلة (الناقد) المهاجرة العربية وعلى رأسها رياض نجيب الريس استبشرنا خيرا.. لأن رياض الأديب والكاتب والصحفي البارز عرفناه مخضرما في العقود الثلاثة الماضية، له مذاقه الخاص في الطرح والمحاورة منذ أن كان بجريدة (النهار) اللبنانية في فترة الستينات والسبعينات ومتابعا دقيقا لقضايا الخليج والجزيرة العربية.. وعرفناه ليبراليا طوال حياته الكتابية ومدافعا صلبا عن حق التعبير المخالف.. لكن الشيء الذي نأسف له أن مجلة (الناقد) كما سمعنا ترفض بعض الكتابات المغايرة لمنهج «الحداثة» وخاصة الشعر التقليدي والمقفى وغيرهما من الآراء الناقدة».

لكن الناقد لم تستمر طويلا وتوقفت عن الصدور، بسبب كما قال رياض الريس: أنها منعت كثيرا من التوزيع في بلاد عربية، ومنها حتى لبنان.. لكن رياض الريس، لم يتوقف تماما، أصدر بعدها بفترة مجلة (النقاد)، ثم توقفت أيضا لكنه عاود الكتابة الصحفية، بين الفينة والأخرى، ومنها جريدة النهار، وفي الوقت نفسه، ألف العديد من الكتب السياسية وبعض الخواطر الفكرية وسيرته الذاتية، واهتم بدار النشر التي سماها على اسمه (رياض الريس للكتب والنشر)، رحم الله رياض الريس رحمة واسعة.