أعمدة

ثورة الدفء (١)

06 أكتوبر 2020
06 أكتوبر 2020

أمل السعيدية

مع بواكير الشتاء الأولى، نتذكر عبر أحلام اليقظة، لحظات الدفء وحميميتها، فلا تعود اللحظات التي نشعلُ فيها نارًا في الخلاء، أو نشرب فيها حليبًا بالزنجبيل، أو نتغطى تحت لحاف ثقيل، لحظات عادية، بل تؤسسُ فكرتنا عن البرد، وعن مقاومة تظهرُ نتيجتها فورًا، ونستمدُ منها بقاءنا على هذه الأرض، في أهم ما نطمحُ إليه كبشر منذ الأزل على حد تعبير الكاتب الأمريكي الذي اعتزل المدينة، وذهب ليعيش في الغابة هنري ثورو: الدفء. ولهذا كان البيت همّ الإنسان الأول، فهو مصدر للتدفئة، وأمان الوصول المستمر لها.

إن البيوت هي إمكانية إيقاد الدفء من منبعه، قبل أن تكون البيوت، درعًا تحمي من اللصوص وسخط الطبيعة، واليوم عندما نؤثث غرف صالات الجلوس نستخدم تعبير «حميمي» أو دافئ، في مقابل كلمة «cozy» والتي تشير في المعاجم أيضًا إلى معنى «عائلي» و«مريح» و«رخيّ».

وللدفء بلا شك صورٌ تخترق أذهاننا على الفور عندما نقرأ الكلمة في مكان ما، شيء أشبه بما تفعله الرائحة، تفاصيل صغيرة للغاية، تلك التي تثير استعارات الدفء التي لا حد لها في أنفسنا.

ولنقترب من مثال على ذلك، جادل ريان بلوم في صحيفة نيويوركر عام ٢٠١٢ في مقالة له بعنوان «الضياع في الترجمة: ما ينبغي أن تكون عليه الجملة الأولى من رواية الغريب» حول الترجمة الأقرب للجملة الافتتاحية التي استقبلها القراء العرب بالحفاوة أيضًا، فهي على باب الذاكرة بمجرد الإشارة لجملة افتتاحية صادمة وعالقة في الذهن، وقد ترجمها محمد آيت حنا للعربية بـ«اليوم ماتت أمي ولعلها ماتت أمس. لستُ أدري. وصلتني برقية من الماؤى: (الأم توفيت. الدفن غدًا. احتراماتنا). وهذا لا يعني شيئًا. ربما حدث الأمرُ أمس» وقد كان موضع جدل بلوم هو لفظ الأم في الترجمة، وأهمية قرب المترجم من المؤلف الذي يترجم له، فكلمة «الأم» بها قليل من الدفء، وهي ليست كلمة قد تصف كائن حي تربطنا به علاقة وثيقة. وهذه الكلمة تؤسس لمدخل نحو عوالم هذه الرواية وشخصية مورسو البطل الذي أرقنا طويلًا فيها، فغياب الدفء عن كلمة «الأم» بدلًا من «ماما» أو «أمي» تجبرنا على رؤية مورسو بعيدًا عن أمه.

يكتب بلوم:«ماذا لو جاء في الجملة الافتتاحية «ماتت أمي اليوم»؟ كيف رأينا مورسو إذن؟ من المحتمل أن يكون انطباعنا الأول أن طفلًا يتحدث. كنا سنشعر بالشفقة أو التعاطف تجاهه. لكن هذا أيضًا كان سيقدم وجهة نظر غير دقيقة عن مورسو. الحقيقة هي أن أيا من هذه الترجمتين - «الأم» أو «أمي» - تتطابق مع الأصل. الكلمة الفرنسية «مامان» معلقة في مكان ما بين طرفي نقيض: إنها ليست «الأم» الباردة والبعيدة ولا «الأم» الطفولية. في اللغة الإنجليزية، قد تبدو «أمي» هي الأقرب لجملة كامو، ولكن لا يزال هناك شيء مثير للإعجاب ومفاجئ بشأن الكلمة ذات المقطع الواحد، مامان maman ذو مقطعين له لمسة من النعومة والدفء التي تفقدها مع «أمي». وبهذا فإن تصريف كلمة في لحظة ما قد يضعنا في مسافة من الشيء الذي نطلقُ عليه هذا الاسم. أتذكر بهذه المناسبة، أنني وفي الأسابيع الأولى من ابتعاثي للدراسة في الخارج، كنتُ أرد على مكالمات أمي ورسائلها بردود مباشرة على أسئلتها عن حالي وصحتي وما تسأله الأمهات في هذه المواقف، حتى قالت لي بعدها بأيام وهي تبكي، أنها تشعر بالألم، لأنني لم أنطق كلمة «أمي» منذ أن غادرت البيت. لكلمة صغيرة، لإيماءة، أو لصورة قدرة خارقة في تشعرنا بالدفء بلا نهاية، فما هي كلمتك صديقي القارئ؟