أفكار وآراء

هل سيحسم المجمع الانتخابي مرةأخرى الانتخابات الأمريكية؟

05 أكتوبر 2020
05 أكتوبر 2020

د.صلاح أبونار -

يبدو مشهد الانتخابات الأمريكية الآن مسكونا بتناقض واضح يندر أن يفلت منه أحد. فعلى جانب سنجد رأيا مدعما بالأدلة الصلبة، من قياسات الرأي العام المتتابعة والمحكمة مرورا بالتحليلات العلمية لتحولات المجتمع الأمريكي وأزماته وانتهاء بظواهر النقد والاحتجاج الشعبي، يرى أن الرئيس الأمريكي من المؤكد أنه سيخسر الانتخابات. وفي مواجهته يقف رأي يذكرنا بمفارقة 2016 الانتخابية والتناقض بين نتائجها ومقدماتها، ولا يستبعد قابليتها للتكرار، لتتقدم أصوات المجمع الانتخابي مرة ثانية وتهزم التصويت الشعبي. فما هي حقيقة الوضع؟ وما هي حدود الصواب في هذين الرأيين؟

يجمع انتخاب الرئيس الأمريكي بين آليتين: آلية للانتخاب المباشر وآلية للانتخاب غير المباشر. تمارس الآلية الأولى من خلال التصويت الشعبي المباشر، الذي يشارك فيه كل مؤهل للانتخاب ومسجل كناخب، وتتولى الاختيار المباشر للرئيس بقاعدة أكثرية الأصوات. وآلية الانتخاب غير المباشر، تختص بها مؤسسة المجمع الانتخابي التي نص عليها الدستور الأمريكي في الفقرة الثانية من القسم الأول من المادة الثانية. تطرح أغلب دراسات النظام الأمريكي أن عملية انتخاب الرئيس تجرى عبر الآلية الثانية. ولكن واقع الأمر أن تلك الآلية مجرد نص دستوري، كان يعمل بشكل ما خلال الفترات المبكرة للنظام الأمريكي ثم تحول تدريجيا وعمليا إلى نص صوري، يعمل كمحض تصديق دستوري على عمل الآلية الأولى.

ماهو هذا المجمع الانتخابي؟ يتكون المجمع الانتخابي من 537 عضوا يمثلون كافة الولايات، بعدد يساوي نفس عدد أعضاء الولاية في الكونجرس بمجلسيه، وفقا لقاعدة المساواة في عدد العضوية المتبعة في مجلس الشيوخ والاختلاف في عدد عضوية مجلس النواب وفقا لاختلاف عدد سكان الولاية. ولقد ولد نظام المجمع وتحددت وظيفته من رحم مرحلة ميلاده التاريخية، أي لحظة تكون الفيدرالية الأمريكية والرغبة في توطيدها عبر تقوية قدرة الولايات الصغرى على موازنة قوة الولايات الكبرى في انتخاب الرئيس، وعبر دعم المكانة الفيدرالية لدول الجنوب التي كان السود يشكلون قسما ضخما من سكانها يُحتسب عند تقدير عدد ممثليها النواب رغم حرمانهم من التصويت، وعبر خلق هيئة انتخابية نخبوية توازن قدرات وتضبط تحيزات ناخب القرن الثامن عشر محدود التعليم.

كيف يعمل هذا المجمع؟ عبر عملية انتخاب مفرطة الصورية، تعد فيها الأحزاب قوائم لأعضاء المجمع ليصوت الناخبون عليها في نفس يوم انتخاب الرئيس، وغالبا لا يعرف عنهم الناخب سوى كونهم مرشحي قائمة حزبه. وبعد اختيارهم يصبحون نظريا ووفقا للدستور ممثلي أو ناخبي الولاية المكلفين بانتخاب الرئيس، والواقع أنهم لا يمارسون أي انتخاب، بل يقومون بتنفيذ تعهد معروف منصوص عليه في دساتير نصف ولاياتها ويلتزم به عرفيا النصف الآخر، بالتصويت للمرشح الرئاسي الفائز بالتصويت الشعبي في الولاية، وفقا لقاعدة الرابح يأخذ كل شيء وبالتالي تذهب كل أصوات الولاية للرابح، وهو ما يعني انهم مجرد معبرين عن النتائج التي أقرها الناخبون. ويتلو ذلك الجمع الآلي لعدد أصوات المجمع التي فاز بها المرشحان في كل ولاية، والفائز من يحصل على الأغلبية أي على 270 صوتا.

وإذا كان الأمر يسير بهذا الأسلوب من أين تتولد مخاطر تلك المؤسسة الصورية؟ على امتداد تاريخ النظام الأمريكي منذ انتخاب جورج واشنطن عام 1789 كأول رئيس أمريكي، أي على امتداد 225 عاما و58 انتخابا رئاسيا و54 رئيسا للجمهورية، قام المجمع بما هو متوقع منه أي التصديق الدستوري الصوري على نتائج الانتخابات الشعبية، ولم يواجه طوالها سوى أربعة انتخابات رئاسية خرج فيها عن أداء هذا الدور. وقبل تلك الأزمات الأربع شهد عمل المجمع أزمتين، في انتخابات 1800 التي فاز فيها توماس جيفرسون و1824 التي فاز بها جون كوينسى آدامز. لكنهما لم يتولدا من عمل المجمع نفسه، بل من توازن نتائج المرشحين وعجز المجمع عن اختيار صاحب الأغلبية، الأمر الذي دفعه لاستخدام اختصاصه الدستوري بإحالة المشكلة لمجلس النواب للاختيار بينهم. وسوف نجد الأزمات الأربع المشار إليها في انتخابات 1876 التي فاز بها روثرفورد هايس، وانتخابات 1888 وفاز بها بنيامين هاريسون، وانتخابات2000 وفاز بها جورج بوش، وانتخابات2016 وفاز بها ترامب، وفيها جميعا حصل الفائز ذو التصويت الشعبي الأقل على أغلبية المجمع ليصبح رئيسا. ولم يسجل المحللون في أي من تلك الحالات أي انحراف من المجمع عن القواعد الدستورية المنظمة لعمله. ولكن برد عددها إلى عدد الانتخابات والرؤساء منذ تأسيس النظام الرئاسي الفيدرالي، سنجدها تشكل خروجا محدودا عن أداء المجمع لوظيفته التصديقية الصورية في الانتخابات.

كيف يمكننا تفسير هذا الخروج؟ نفترض وجود سببين. يشير الأول إلى أن لأي مؤسسة منطقها التكويني ووظيفتها الخارجية، وأن القاعدة هي عمل المنطق التكويني لصالح الوظيفة الخارجية، ولكن يمكن أيضا في حالات معينة أن يعمل ضدها. وبلغة أخرى للديمقراطية بعدها المؤسسي الذي يعمل ضدها أحيانا بل كثيرا. ويشير الثاني إلى أن نظام المجمع آخذ في التقادم ويستهلك مع الوقت أسباب وجوده، ويمكننا افتراض أن التصاعد في فارق الأصوات يمثل مؤشرا على هذا التقادم. كان هاريسون الفائز بأصوات المجمع عام 1888 أقل بمقدار 90.000 صوت فقط من خصمه جروفر كليفلاند، وارتفع الفارق بين بوش الابن وآل جور في انتخابات 2000 إلى 543.895 صوتا، وعندما نصل لانتخابات 2016 سنجد هيلارى كلينتون الخاسرة لأصوات المجمع تتفوق على ترامب بمقدار 2.9 مليون صوت.

ويقودنا التحليل السابق إلى سؤال منطقي: ولماذا لا يمارس نفس العاملين تأثيرهما في الثالث من نوفمبر؟ من المستبعد حدوث ذلك لأن مؤسسة المجمع سواء بمنطقها التكويني أو بمنطق تقادمها تعمل في سياق خارجي، ومن شأن التغير في هذا السياق الخارجي والوعي بتأثيره أن يقيد فعل هذين العاملين.

ما هي العوامل الواقعية المؤيدة لهذا الافتراض التحليلي؟ بكلمات أكثر تحديدا: ما هي المتغيرات التي شهدها هذا السياق؟ نرصد في هذا الصدد ثلاثة متغيرات: مستوى التأييد العام لبايدن بالمقارنة بترامب، والتحولات السوسيولوجية التي شهدتها بعض القواعد الانتخابية، وفي النهاية تحولات نمط التأييد المرجح داخل ما يسمى بالولايات المتأرجحة. وفي هذا المقال سنتعرض للمتغيرين الأول والثاني، على أن نتعرض للثالث في المقال القادم.

فيما يتعلق بالمتغير الأول. تشير أغلب القياسات القومية فيما عدا قلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، إلى تقدم بايدن على ترامب بمعدلات عالية وعلى مدى زمني متصل يزيد عن عام. أورد موقع فايف ثيرتي إيت نتائج 11 استطلاعا تغطي الفترة من 13 أغسطس إلى 17 سبتمبر، تقع وفقا لتصنيفه لمستويات دقة الاستطلاعات في الفئة الأولى، ترجح جميعها كفة بايدن بفارق يتراوح بين 7 و11 نقطة. وأورد نفس الموقع نتائج 51 استطلاعا لمستوى الموافقة القومية على أداء ترامب كرئيس تغطي الفترة من 14 يناير حتى 11 سبتمبر، وباستثناء أربعة استطلاعات رجح 47 استطلاعا كفة عدم الموافقة، بفارق يتراوح بين نقطتين و16 نقطة وبمتوسط عام تقريبي 8 نقاط. وهنا سيظهر اعتراض: ألم ترجح استطلاعات 2016 كفة كلينتون على ترامب؟. والإجابة أن هذا الترجيح أكدته النتائج طالما كنا نتحدث على المستوى القومي العام، وان ترجيحات بايدن أقوى دلالة لأن متوسط الفارق بين كلينتون وبايدن فيما بين يونيو ونوفمبر 2016 وفقا لتقديرات البي بي سي كان 48% مقابل 44%.

وفيما يتعلق بالمتغير الثاني. يمنحنا تحليل كتبه ديفيد واسيرمان بتاريخ 23 سبتمبر في موقع كوك بوليتيكال ريبورت، مؤشرا جيدا لفهم التحولات السوسيولوجية المساندة لخيارات الناخبين المتوقعة. يرى الكاتب أن مفتاح فوز ترامب في انتخابات 2016 كانت تمكنه من الفوز بفارق 37 نقطة، بأصوات الناخبين البيض من غير ذوي المؤهلات الجامعية العليا في المناطق الشمالية من الغرب الأوسط (مينسوتا وويسكونسن وميتشيجان وايليونيس وانديانا)، التي يملكون فيها وزنا اجتماعيا وتأثيرا سياسيا كبيرا. ويضيف: إن وضع تلك الفئة الآن يختلف عن ما كان عليه من أربع سنوات، فلقد انخفضت نسبة هؤلاء من 46% من إجمالي سكان الأمة الراشدين إلى 43%، مقابل ارتفاع نسبة البيض من ذوي المؤهلات الجامعية العليا من 24% إلى 25%، والسود والآسيويون والأمريكيون اللاتينيون المؤيدون الأقوياء للديمقراطيون من 30% إلى 32%. ويستطرد إنه في بحث قام به كل من كوك بوليتيكال ريبورت وإن بي سي استنتج الباحثون أنه لو تكررت نسبة تصويت ودعم 2016، فإن تلك التحولات الديموغرافية سوف تمكن بايدن من كسب تأييد فلوريدا وميتشيجان وبينسلفانيا وويسكونسن. ويضيف: أن ترامب في إمكانه تكثيف جهوده الموجهة إلى هذه الفئات، لأنه خلال انتخابات 2016 لم يصوت في ميتشيجان وويسكونسن وبينسلفانيا 4.9 مليون من هذه الفئات. ولكن على ترامب أن يرفع درجة مشاركة تلك الفئات على المستوى القومي العام من 55% إلى 60% لكي يعوض تراجع وزنها الديموغرافي ويحقق ما حققه عام 2016. ولكن في المقابل اصبح بايدن قادرا على اكتساب المزيد من أصوات غير الجامعيين. ففي القياس الأخير الذي أجرته إن بي سي نيوز ووول ستريت جورنال، يظهر أن بايدن يفقدهم بمقدار 23 نقطة بينما فقدتهم هيلاري بمقدار 37 نقطة، وهذا يكفي لموازنة المكاسب المتواضعة التي حققها ترامب وسط الهيسبانيك منذ 2016.