أفكار وآراء

الفلسطينيون في حاجة إلى الحوار والانفتاح لا إلى العزلة

03 أكتوبر 2020
03 أكتوبر 2020

د. عبدالعاطي محمد -

يصبح من الضروري عربيا بوجه عام تعزيز هذا التحرك الداخلي الفلسطيني الجديد وتشجيع القادمين الجدد في مسار العلاقات العربية الإسرائيلية الطبيعية على إقناع الإدارة الأمريكية بإشراك السلطة الفلسطينية في وضعها الجديد في إعادة صياغة ما يسمى بصفقة القرن.

في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي كثيرا ما كانت العلاقة مع إسرائيل موضوعا للخلاف ليس فقط بين العرب والفلسطينيين، وإنما أيضا بين الفلسطينيين أنفسهم، ولكن من واقع التجربة دائما ما كان هذا الخلاف يصل إلى توافق أو تهدئة، وتعود المياه إلى مجاريها، وتبدأ جولة تلو الأخرى من البحث عن حل سلمى شامل وعادل لهذا الصراع المعقد والطويل، مع العمل على تجاوز أية خلافات سواء من الجانب الفلسطيني أو العربي تعترض تحقيقه.

ولا يخرج المشهد الفلسطيني الراهن، في ضوء تزايد عدد الدول العربية التي تقيم علاقات طبيعية مع إسرائيل، عن كونه حلقة من حلقات الخلاف حول هذه القضية التي لها أبعادها المختلفة عن سابقاتها، ولكن من حيث التداعيات لا نجد فيها ما يشير إلى أن أيا من الجانبين العربي والفلسطيني يريد أن يرفع من حدة الخلاف أو يجعل منه سببا لقطيعة من المعروف أنها تصل إلى حد المحرمات، حيث لا يتوقع عاقل أن يحدث هذا يوما بينهما مهما كانت قوة الخلاف أو صعوبة ملابساته. ومن الصحيح أن ردود الفعل الأولى من الجانب الفلسطيني اتسمت بالانفعال الحاد غير المقبول سياسيا مما جعل بعض وسائل الإعلام تنفخ في النار لتزيدها اشتعالا، إلا أن الأمر لم يصل من هذا الجانب إلى نفس المشهد الذي حدث وقت إقامة العلاقات بين كل من مصر والأردن مع إسرائيل، ولا عندما تم توقيع اتفاقيات أوسلو بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.

ويرجع السبب إلى أن الفلسطينيين تعلموا درسا هاما من تجارب الماضي هو أن الانفتاح على أشقائهم العرب وعلى بقية شعوب العالم المحبة للسلام والعدل هو الطريق إلى تحقيق أحلامهم المشروعة في إقامة دولتهم المستقلة، بينما العزلة لن تؤدى بهم إلا إلى ضياع هذا الحلم المشروع إلى الأبد، ولذلك رأوا أن الخلاف يجب أن يتوقف عند حد بعينه وأن الغطاء العربي لقضيتهم المشروعة يجب أن يظل ممتدا انتظارا لوضوح تداعيات المستجدات في العلاقات العربية الإسرائيلية. والدليل على ذلك أن دولة فلسطين اعتذرت عن ترؤسها للدورة الحالية (154) لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، ولم تشأ أن تعبر عن رغبتها في الانسحاب من الجامعة مثلا تجسيدا لاستيائها من عدم صدور قرار من الاجتماع لا يضفي الشرعية على خطوات إقامة علاقات جديدة بين العرب وإسرائيل. وبالطبع كان الانسحاب معناه خسارة ساحة سياسية إقليمية بالغة الأهمية، في الوقت الذي يسعى الفلسطينيون إلى استغلال كل الساحات والمنابر الإقليمية والدولية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

الخطر لا يتوقف فقط عند خسارة غطاء سياسي عربي إذا ما تمادى الفلسطينيون في طريق الشجب والإدانة، وإنما هناك ما هو أشد قسوة من وراء وقوع الخصومة الحادة مع الجانب العربي، وهو الخسائر المالية والمادية (المساعدات الإنسانية والإنشاءات.. الخ) في ظل الظروف العالمية الراهنة، حيث جائحة كورونا وخسائرها البشرية والمادية، والأزمة الاقتصادية العالمية التي ترتبت على هذه الجائحة. ولا شك أن وجود الأزمة مع الجانب العربي واستمرارها ولو لوقت قصير من شأنه تعميق الأزمة الاقتصادية للشعب الفلسطيني، لأن المساعدات الدولية والعربية كانت قد بدأت الانخفاض منذ شهور نتيجة الخلاف حول مسار السلام الفلسطيني الإسرائيلي، وتزداد انخفاضا مستقبلا إذا تدهورت العلاقة أكثر مع الجانب العربي.

ووفقا لما ذكرته صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية مؤخرا، انخفضت المساعدات الخارجية الأجنبية بنسبة 50% بينما انخفض إجمالي إيرادات الحكومة في رام الله بنحو 70% هذا العام. وانخفض تمويل الحكومة عبر المساعدات الخارجية في الأشهر السبعة الأخيرة من 500 مليون دولار عام 2019 إلى 250 مليون دولار هذا العام. كما انخفضت المساعدات العربية خلال نفس الفترة بنسبة 85% من 267 مليون دولار في 2019 إلى 38 مليون دولار عام 2020. وكما هو معروف فإن الشق الأكبر من المساعدات العربية يأتي من بعض دول الخليج العربية.

لن يجازف الفلسطينيون بخسارة الغطاء العربي بسبب قضية موضع جدل أو أصبحت عديمة التأثير في طبيعة ومسار الصراع العربي الإسرائيلي مثل قضية إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل. هناك قدر من الغضب الفلسطيني لأسباب تتعلق بالاستهلاك المحلي السياسي بالدرجة الأولى وليس بهذه القضية تحديدا، خصوصا وأن الفلسطينيين قد طبعوا بالفعل منذ 1993. خسارة هذا الغطاء العربي تعنى بكل تأكيد ضرب الحياة المعيشية للفلسطينيين سواء في القطاع أو غزة في مقتل. ومن جهة أخرى فإن المواقف العربية الرسمية بل والشعبية لا تزال تكرر نفس المقولات الأساسية لحل الصراع، ومن أهمها إقامة الدولة الفلسطينية عبر تفعيل حل الدولتين، هذا برغم الاتجاه المتزايد لإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل. كما أن الخطاب العربي الرسمي يؤكد كثيرا على أن أية خطوة في هذا الاتجاه ستعمل على تحقيق حل الدولتين مثلما تهتم بالمصالح الذاتية من العلاقة. وهناك وجهة نظر قوية سواء في الأوساط العربية المؤثرة أو الغربية تؤكد أن الدول العربية التي تتجه لإقامة علاقات مع إسرائيل تستطيع من خلال هذه العلاقة أن تؤثر بشكل أفضل على الحكومة والشعب الإسرائيلي لصالح الدفع لتفعيل حل الدولتين، مما يمكن أن تفعله بدون وجود هذه العلاقة. ويقول دان شابيرو سفير واشنطن السابق في تل أبيب في تحليل قدمه لصالح معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط إن إقامة العلاقات الجديدة سيؤدى إلى تعليق (الإيقاف مؤقتا) عدة جوانب في خطة ترامب (صفقة القرن) لأنها بشكلها الحالي تحرم الفلسطينيين من إقامة دولة قابلة للحياة وتتمتع بالحد الأدنى من السيادة، وذلك من حيث كونها عبارة عن مساحة جغرافية تتكون من قطع متفرقة، وتضر بأمن إسرائيل من خلال رسم حدود جديدة ملتوية، وزيادة احتمالية الاحتكاك بين التجمعات الفلسطينية والإسرائيلية، وفرض واقع الدولة الواحدة لا الدولتين، ذلك الواقع الذي يعرض مستقبل إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية للخطر. وجوهر وجهة النظر هذه هو أن إقامة العلاقات يصب لصالح القضية الفلسطينية لا العكس كما يقول المعارضون.

وفي حالة التسليم بوجهة النظر هذه فإنها تحتاج لتطور مهم وإلا تظل موضع شك وريبة. فالمشهد الراهن يؤكد أن الفلسطينيين دون تمييز أي بمن فيهم أهل الاعتدال قد ركبوا الشجرة ولا يريدون النزول منها، أيا كانت المبررات التي جعلتهم يتمترسون خلف هذا الموقف ولا يريدون التخلي عنه. وحتى يوافقوا على النزول ليس من الأفضل مباشرة المزيد من الضغوط عليه بقدر ما التلويح لهم بالجزرة، أي تقديم ما يغريهم على النزول وبالتالي عودة الأوضاع إلى سابق عهدها وغلق الصفحة الأخيرة. وهنا يمكن القول أن استعادة العلاقة بين السلطة الفلسطينية والإدارة الأمريكية يعد أحد مفاتيح الحل أو إحدى الجزرات المغريات. فالأرجح أن السلطة استشاطت غضبا عندما أدركت أن إدارة ترامب وعبر مبعوثه كوشنر قد أقصتها جانبا عند صياغة صفقة القرن وعبر أساليبها الاستفزازية في محاولة تفعيل خطة السلام المقترحة. والفكرة ممكنة في حالة فوز ترامب لدورة ثانية أو حتى في حالة خسارته الانتخابات ونجاح منافسه الديمقراطي جون بايدن الذي سيكون أميل إلى مفاوضات تشمل الجميع وتحترم التعددية وحل الدولتين لا فرض التصور الأحادي الذي اتبعه ترامب. من يوقع جديدا مع إسرائيل يمكنه التركيز على هذه الورقة (استعادة زخم العلاقات الأمريكية الفلسطينية)، ويستطيع الاستفادة من التحركات الداخلية الفلسطينية الراهنة التي تركز على إنجاح الانتخابات العامة قريبا والوصول إلى قيادة فلسطينية وطنية مشتركة لا تقصى أحدا، لأن تطورا كهذا من شأنه حل مشكلة حماس ليس على الصعيد الفلسطيني فقط وإنما على المستوى الغربي وفي المقدمة من الولايات المتحدة، حيث تصبح حماس جزءا في سلطة جاءت بإرادة شعبية وعبر صناديق الاقتراع، مما يسقط حجة الغرب في مخاصمة حماس. ويؤدى تطور مثل هذا إلى استعادة الثقة بين عواصم الغرب والقيادة الفلسطينية الجديدة، مما ينعكس على خريطة تحقيق السلام في المنطقة.

ومن جهة أخرى يصبح من الضروري عربيا بوجه عام تعزيز هذا التحرك الداخلي الفلسطيني الجديد وتشجيع القادمين الجدد في مسار العلاقات العربية الإسرائيلية الطبيعية على إقناع الإدارة الأمريكية بإشراك السلطة الفلسطينية في وضعها الجديد في إعادة صياغة ما يسمى بصفقة القرن. وبالمقابل فإن محاولة الجانب الفلسطيني اللعب على المحاور واستغلال الأزمات الإقليمية الراهنة لتعديل المعادلة لصالحه، من شأنها إطالة الخلاف الجديد وتحوله إلى أزمة تضيف المزيد من المعاناة للشعب الفلسطيني.

كما أن الحرص على تفعيل المسؤولية الدولية عبر اقتراح إعلان فلسطين دولة تحت الاحتلال بما يلزم المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل للقيام بواجباتها كدولة احتلال وصولا إلى زواله، إنما يفتقد لعوامل نجاحه ليس من ناحية تراجع حماسة المجتمع الدولي تجاه القضية الفلسطينية فقط، وإنما لأن إسرائيل تستطيع القيام بعملية انسحاب من جانب واحد من المنطقة ألف في الضفة مثلما فعلت من قبل عندما انسحبت من غزة، وفي هذه الحالة لن تجدي الفكرة نفعا. إنه الحوار ثم الحوار بين الجانبين الفلسطيني والعربي لا الخصومة أو العزلة سواء جاءت من هذا الطرف أو ذاك، فالمكاسب في حالة الحوار مشتركة، كما أن الخسائر في حالة العزلة مشتركة.