أفكار وآراء

صراع العلم والانتخابات في إنتاج لقاح كورونا الأمريكي

28 سبتمبر 2020
28 سبتمبر 2020

د.صلاح أبونار -

مع اقتراب سبتمبر من نهايته وانطلاق أكتوبر، سيدخل المجتمع الأمريكي حتى الثالث من نوفمبر، في قلب عاصفة الانتخابات الرئاسية. ولكن هذه العاصفة التي بدأت رياحها في التجمع والهبوب منذ إثارة قضية التدخل الروسي في انتخابات 2016 وشروع مولر في تحقيقه، من المرجح أن تهب داخلها عاصفة أخرى صغيرة ستحمل الكثير من عنف العاصفة الأصلية. إذ يمكن للرئيس الأمريكي أن يمضى في خططه القديمة، معلنا النجاح في الوصول إلى لقاح آمن وفعال لكورونا أو ما كان يروقه دعوته «مفاجأة أكتوبر. ولكن المشكلة أن المفاجأة بفرض نجاح ترامب في فرضها، ستحمل على الأرجح عواصف كفيلة بتحويلها إلى كارثة سياسية، ناجمة عن التناقض بين معايير المجال العلمي ومعايير المجال السياسي. كيف نفهم هذا التناقض وما هي أبعاده؟

مع اقتراب الانتخابات يجد ترامب نفسه في مواجهة مأزق يهدده بخسارتها، حيث تشير مؤشرات عديدة إلى تراجع حاد في قوته السياسية في مواجهة المرشح الديمقراطي بايدن. ما هي أهم تلك المؤشرات؟

سنجدها من جهة أولى عند مراجعة القياسات القومية العامة للرأي العام. سنعثر داخل موقع «ريل كلير بوليتيكس» على جدول يرصد نتائج كل أو أغلب القياسات القومية على امتداد هذا العام من 3 يناير إلى 18 سبتمبر. على امتداد عشرات القياسات فيما بين التاريخين سنلاحظ فوز بايدن في أغلبها فيما عدا قياسين فاز فيهما ترامب وثلاثة تعادلا فيها، وسنلاحظ تراوح هامش فوز بايدن من1% إلى 12% بمتوسط 5% تقريبا، وهو متوسط واسع بالمعايير الأمريكية. كما يبدو من جهة ثانية عند مراجعة توقعات أصوات الحزبين في المجمع الانتخابي. وفقا لتحليل للبى بي سي تشير آخر قياسات الرأي لما يعرف بالولايات المتأرجحة بين الحزبين، إلى تفوق بايدن فيها جميعا فيما عدا جورجيا وأيوا وتكساس، وفي ثماني ولايات متأرجحة كسبها ترامب 2016 ترجح الآن كفة بايدن. ويبدو هذا من جهة ثالثة عند مراجعة معدلات موافقة الرأي العام على أداء ترامب العام. وفقا لجالوب وصل متوسط المعدلات من يناير إلى أوائل مايو 47% وانخفض إلى 39% خلال مايو ويونيو داخل كل الشرائح الديموغرافية، وتضع تلك النسبة ترامب مع بوش الأب وكارتر في فئة واحدة فكلاهما كان معدل أدائه أقل من 40% وكانا آخر رئيسين خدما لفترة واحدة. ويبدو هذا من جهة رابعة بمراجعة مدى الموافقة العامة على أداء ترامب في مواجهة كورونا. في قياس للرأي العام في الأسبوع الثالث من يوليو وافق 38% فقط على طريقة مواجهته، وكانت نسبتهم 46% أواخر مايو و51% أواخر مارس. وفى القياس نفسه قال 50% أنهم لا يثقون على الإطلاق فيما يقوله ترامب حول الجائحة. وفى قياس أجري في الأسبوع الثاني من سبتمبر أعرب 52% من الراشدين عن عدم ثقتهم في تصريحاته عن لقاح الكورونا. ويبدو هذا من جهة خامسة وأخيرة عند مراجعة معدلات الرضا الشعبي عن الاتجاه العام لأمريكا. وفقا لجالوب هبط هذا المعدل من 45% إلى33% خلال فبراير ومارس بالتوافق من موجة كورونا، وواصل هبوطه إلى 20% بالتوافق مع اضطرابات مصرع فلويد.

وعندما نرصد القوى الصانعة للمؤشرات السلبية السابقة يمكننا أن نميز داخلها ثلاثة، أولها سلبيات أداء ترامب العام، في موقفه من قضايا المناخ الذي استثارت قطاعات أمريكية واسعة، إلى فوضى إدارته التي دفعت بعناصر كثيرة وأساسية للاستقالة أو الإقالة، إلى شبهات التواطؤ المباشر مع روسيا في انتخابات 2016 التي تركها تقرير مولر معلقة دونما تأكيد أو نفي، إلى سياساته وتصريحاته ذات الميول اليمينية العنصرية الواضحة، إلى ممارساته العدائية مع كبرى وسائل الإعلام، إلى المنازعات الخفية والمعلنة مع بعض أهم مؤسسات دولته. وكان لهذا الأداء السلبي تأثيره المؤكد، ونجد مؤشرا علي ذلك في قياسات «ريل كلير بوليتيكس». سنجد داخل جدول القياسات نفسه رصدا لقياسات أجريت في الفترة السابقة على التأثير السلبي الداخلي لسياسات ترامب تجاه الجائحة. ففي قياس بتاريخ 2 سبتمبر 2019 حصل بايدن على تأييد 50.3% وترامب على 40.8% فقط، وتواصلت الفوارق بينهما حتى ما قبل تأثير الجائحة، فحصل بايدن في 22 فبراير 2020 على 50.4% وترامب 45.6%. تقودنا النتيجة السابقة إلى العامل الثاني وهو تأثير الجائحة ونمط سياسات ترامب معها. سيبدأ تأثيرها بعد 22 فبراير ويتواصل خلال مارس وأبريل ومايو بدرجات متفاوتة، حتى ينطلق تأثير العامل الثالث وهو اضطرابات مصرع فلويد في 25 مايو.

وفى مواجهة المأزق الانتخابي أطلق ترامب عدة سياسة. إطلاق سياسات لاحتواء آثار الجائحة الاقتصادية، وصل إجمالي المبلغ الذي اعتمده الكونجرس رسميا لها 3 تريليونات دولار. وتحجيم سياسات الإغلاق الاقتصادي والتباعد الاجتماعي، من حيث نطاق تطبيقها و امتدادها الزمني، لتقليل آثارها الاقتصادية. والضغط السياسي لتخطى الأعراف العلمية المتوافق عليها، من أجل الاعتماد الطبي السريع لعقاقير مرضى الفيروس ولقاحاته. ولا يدخل في نطاق اهتمامنا الآن سوى الحزمة الثالثة وبالتحديد جانبها المتعلق بالضغط من أجل الوصول السريع للقاح الكورونا.

تواجه ضغوط ترامب للوصول السريع للقاح كورونا قبل الانتخابات تحديات صعبة، قد تجعله مستحيل التحقق أو محدود الجدوى سياسيا إذا تحقق. لماذا ؟

من جهة أولى لن يجد هذا المسعى تعاونا سهلا وغير مشروط، سواء من جانب الشركات المنتجة والمختبرات، أو من جانب السلطات المختصة بالتصديق العلمي على الدواء والسماح بإنتاجه وتداوله. تبدو الشركات والمختبرات حتى الآن حذرة تجاه تلك المساعي، فهي تعي مزالق التسييس وتداعياته المهنية الضارة، وأنها تعمل في إطار منظومة علمية متعددة المراكز ومزدحمة الضوابط وقادرة على فضح التجاوزات، وتقدر وزن التقاليد الأخلاقية في أبحاث الدواء، وتعرف أن عنفوان الجائحة جعل كل ما يخصها تحت بصر ومراقبة العالم، والأخطر أنها تواجه ضغوطا علنية وفجة وتمارس بدأب وانتظام وليس في الخفاء الأمر الذي يضعف احتمالات تجاوبها. وهو ما دفع تسع شركات أمريكية ودولية كبرى «بيوتقنية» ودوائية لإصدار بيان في 8 سبتمبر، تعهد بعدم السعي للحصول على موافقات رسمية لإنتاج أدوية أو أمصال إلا بعد التأكد من أمنها وفعاليتها. وعلى الجانب الآخر تبدو بعض الهيئات الطبية الأمريكية الرسمية قابلة لتسييس قراراتها، كما حدث عندما استجابت إدارة الأغذية والعقاقير لضغوط ترامب وأقرت عقار الهيدروكسي كلورين ثم بلازما التعافي لعلاج الكورونا، ثم سحبت موافقتها عندما أثبت الاستخدام عدم جدواهما. ولكن هناك أيضا هيئات وقيادات تحترم التقاليد المهنية وغير قابلة للتكيف والتسييس، ودفع وجودها ترامب لكتابة تويتر يتهم نفس الإدارة بخضوعها «للدولة العميقة»، الراغبة في منع الوصول للقاح لما بعد الانتخابات.

ومن جهة ثانية تظهر قياسات الرأي العام وجود موانع قوية تعوق خطة ترامب. لا يبدو أن الأقبال على اللقاح سيكون قويا أو ساحقا. في قياس قومى أجرته مؤسسة جالوب في يوليو وافق 65% على تناول اللقاح إذا أقرته أدارة الأغذية والعقاقير مقابل رفض 35%. وفى قياس ثان أواخر أغسطس قال 54% أنهم لن يتناولوا اللقاح حال طرحه قبيل الانتخابات. وفى قياس ثالث في سبتمبر أجرى في ولاية كولورادو، رجح أقل من 50% أنهم سيتناولون اللقاح و35% عدم تناوله. وهى نسب مغايرة للمعدلات المعتادة، ففي تقرير جالوب «مرصد مرحبا العالمي» يونيو 2019، كانت نسبة الأمريكيين الموافقين عام 2018 على تناول اللقاحات 72% والرافضين 17% فقط. وتساعدنا قياسات أخرى على فهم علة الانخفاض النسبى، وإمكانية التزايد القوي لنسبة الممتنعين حال طرح اللقاح. في قياس أُجري في يونيو 2019 قال 45% إن هناك ما يدفعهم للشك القوى في أمان اللقاح المنتظر. وفي يوليو يخبرنا قياس آخر أن 64% يفضلون التريث واستكمال كافة اختبارات اللقاح، بينما يفضل 22% سرعه الوصول إليه بقدر الإمكان. وأظهر قياس في الأسبوع الأخير من أغسطس تراجع ثقة الجمهور في مؤسسات وقيادات الجهاز الصحي الأمريكي. انخفضت الثقة في مؤسسة «مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية» إلى 67% وكانت 83% في أبريل، الدكتور فاوتسي إلى 68% وكانت 78% في أبريل. وأعرب 4 من كل 10 عن اعتقادهم أن أدارة الأغذية والعقاقير ومراكز السيطرة تمنح الكثير من الاهتمام للسياسة، و6 من كل 10 عن توقعهم اندفاع إدارة الأغذية للموافقة على اللقاح تحت تأثير السياسة.

وما المتوقع في ظل هذا الموقف المتناقض؟ لن يستسلم ترامب مودعا حلم «مفاجأة أكتوبر»، ولن يدفعه للاستسلام سوى قناعة عميقة أن أضرارها تتخطى منافعها السياسية. ومن الواضح أن لديه عدة سيناريوهات يحاول تجريبها. كشفت الفايننشيال تايمز بتاريخ 25 أغسطس عن سيناريو للاتفاق مع جامعة أوكسفورد على استخدام لقاحها، وهو لا يزال في مرحلة الدراسة المختصرة التي يقتصر تجريب مرحلتها الثالثة على 10.000 متطوع. ولكن التقرير لم يشر إلى تجاوب الجامعة. والأمر المؤكد وجود سيناريوهات أخرى، ولكن كل المؤشرات التي تناولناها تؤكد أن الاندفاع إليها مخاطرة غير مأمونة. ليس فقط لأنها لن تجد إقبالا واسعا لو مررتها السلطات الطبية، بل أيضا لأنها سوف تمنح خصومه في أسابيع أكتوبر الحاسمة أسلحة قادرة على النيل منه.